في أحد المكاتب الصغيرة بالدور الأرضي بمبنى وزارة التربية والتعليم القديم بمنطقة القضيبية. تتكدس رزم عديدة من أوراق رسمية ذات شكل واحد ومقاس واحد وموضوع واحد. تارة تعلو وتارة تهبط بقدر همة الموظفين العاملين في ذلك المكتب. العدد لا يبدو منتهياً حتى الآن. ثمة رسائل على الورق الرسمي الأبيض معنونة بـ (إخطار)، وثمة رزم أخرى من الأوراق مصفوفة بتهذيب شديد ومعنونة بـ(إجراء تأديبي)، فما حكاية تلك الإخطارات وتلك الإجراءات التأديبية؟
كأن هؤلاء الموظفين، لا وظيفة لهم غير الاتصال بأصحاب تلك الإخطارات والإجراءات التأديبية. الأعداد كبيرة ولا يعلم هؤلاء الموظفون متى ستنتهي. لا تزال تأتيهم كل يوم رُزم جديدة من الأسماء، ما يضطرهم الى التأخر بعد وقت الدوام الرسمي. عليهم كل يوم الاتصال بالأسماء (المستهدفة)، لتحضر إلى المكتب العتيد، لتستلم إخطارها أو إجراءها التأديبي.
عندما يُبدي (الموظف/ المعلم) المُستهدف احتجاحه على تعسفية الإجراء، يأتيه الرد مباشرة من قبل هؤلاء الموظفين: تظلّم. أي قدم تظلما للجنة التظلمات بالوزارة برئاسة الشيخ هشام. التظلم عند من وضد من؟ الجلاد الذي هو الحكم في آن؟! وماذا بعد التظلم؟ سيأتيك الجواب "قُبل تظلمكم شكلا ورفض موضوعا"، هذا ما جاء في ردود لجنة التظلم على أغلب الرسائل التي رفعت إليها.
عندما استنكر أحد المعلمين إجرائه التأديبي، قيل له: كان القرار فصلك، إلا أنه نظرا لرقة قلوب مسؤلي التربية والتعليم خففوا عنك الفصل إلى إيقاف عشرة أيام مع وقف الراتب. تقرير بسيوني الذي اعتبر الفصل من العمل والتوقيف انتهاكاً حقوقياً، وعقاباً تعسفياً، وأوصى بعودة جميع المفصولين والموقوفين لأعمالهم، صار الآن رقة قلب من مسؤولي الوزارة!
وبالرغم من أن المفصولين الذين تمت إعادتهم للعمل، لم يستعيدوا رواتبهم (المنهوبة) خلال فترة فصلهم، ولا تزال تلك الأشهر التي فصلوا فيها مقتطعة حتى من سنوات خدمتهم، وبالرغم من أنه لا يزال بعض الموقوفين، وكذلك البعض من غير الموقوفين، مقطوعة رواتبهم منذ أشهر طويلة، ولم يسترجعوها حتى الآن، فإن وزارة التربية تتباهى برقة قلب المسؤولين الذين استبسلوا في تجويع موظفيهم وقطع أرزاقهم!!
التهم المسكوكة في تلك الأوراق الجامدة المسبوكة، تأتي مفصلة، تناسب جميع الموظفين/المعلمين دون استثناء. التهم العامة كالتالي:
الدعوة، أو التهديد، أو الاشتراك، أو التحريض، على الإضراب في المرافق الحيوية الهامة.
إساءة التصرف داخل وخارج مجال العمل خلافا لمقتضيات الوظيفة العامة، أو النيل من كرامتها.
مخالفة القوانين والقرارات والتعليمات المعمول بها (المادة 21) ) من المرسوم بقانون رقم (48) لسنة 2010 بإصدار قانون قانون الخدمة المدنية .
الاستجابة لدعوة الاعتصام والعصيان المدني الذي أعلن في مارس 2011م.
الجزاء: التوقيف عن العمل والراتب لمدة عشرة أيام .
لا يفهم الموظف/ المعلم شيئا من تلك التهم الكبيرة الملفقة، فهو لم يذهب لأي مجلس تأديبي، ولم يعرف كيف تمكنت الوزارة من إثبات تلك التهم عليه غيابيا ودون أن تعطيه دليلاً واحداَ.
يكفي أن ينتمي الموظف/ المعلم لطائفة معينة ليتم معاقبته بالتوقيف، لا فرق في ذلك بين أن يكون قد تغيب عن العمل خلال فترة العصيان المدني أو لم يتغيب، ولا فرق بين أن يكون غائباً بسبب عذر طبي أو بلا عذر، ولا فرق بين إن كان هناك آخر من الطائفة الأخرى قد غاب في الأيام نفسها أم لا. سيأتيك التوقيف إن آجلاً أو عاجلاً، وعليك أن تشكر رقة قلوب المسؤولين أنهم لم يفصلوك.
أكثر من هذا، تسلّم عدد من المعلمين والمعلمات رسالة توقيف ثانية، لمدة عشرة أيام مرة أخرى، هي الرسالة الأولى ذاتها، والظرف ذاته والختم ذاته والسبب ذاته، ورقة القلب ذاتها. الأكثر من هذا أيضاً، أن إحدى المعلمات تسلمت رسالة التوقيف للمرة الثالثة مؤخراً، عشرة أيام توقيف للمرة الثالثة، الرسالة ذاتها لم تتغير، الظرف ذاته والختم والسبب.
يبدو أن قلب وزير التربية مازال عصياً على أن يَنسى مازال قلبه مجنونا بذكريات صوره المنتهكة في الدوار ومسيرات المعلمين، مازال بحاجة إلى الانتقام كي يشفى.
تلك الوفرة في الرقة القاتلة، حولت وزارة التربية والتعليم إلى بيئة طاردة للدافعية والرغبة في الإنجاز، بيئة منفرة للكفاءات التربوية والمهنية المتميزة، لكنها بيئة منعشة لمن كفاءتهم الوحيدة هي الوشايات والمخابرات والتجسس وبث الفتن، وهو ما يفسر لنا زيادة عدد طلبات الاستقالة والتقاعد لهذا العام بشكل ملحوظ، ويفسر كون المطالبون بالاستقالة والتقاعد هم ممن يمتلكون الخبرة والكفاءة العالية في مجالات تخصصهم، ممن وجدوا في بيئة العمل الحالية قتلاً متعمداً لهم، فلفظوه غير نادمين.
مرآة البحرين