الأوجه الثلاثة للمسألة السكانية
بقلم: د. علي محمد فخرو
ضمن مؤتمر الجمعية الاقتصادية العمانية حول فرص وتحديات التنمية المستدامة في دول مجلس التعاون طرح موضوع إشكاليات المسألة السكانية التي ستواجه مجتمعات هذه الدول في المستقبل القريب.
في رأيي ان لهذا الموضوع ثلاثة أوجه تحتاج إلى أن ينظر إليها مجتمعة من أجل ان تكون مواجهة هذه المسألة شاملة وجذرية.
الوجه الأول يتعلق بالنمو الديموغرافي الطبيعي لشعوب تلك البلدان. وبالرغم من تفاوت نسب زياداته السنوية فإنه لا يشمل في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور أي مشكلة مقلقة لدول المجلس ككل. ذلك ان مجتمعات يضم سكانها نسبا تتراوح بين ثلاثين وثمانين بالمائة من الأجانب لا تحتاج إلى ان تقلق بشأن إمكانية وصولها إلى تفجر سكاني في المستقبل القريب. لكن بشرط أساسي، وهو شرط إعداد معرفي وتدريبي مستمر وبمستوى ممتاز لكل أجيال سكانها الأصليين حتى تقلل شيئا فشيئا حاجتها لاستيراد عمالة من الخارج للقيام بمختلف الوظائف التي ستحتاج إليها الحياة الاقتصادية والخدمية المتغيرة المتنامية في مجتمعاتنا، شرط وجود تعليم جيد وتدريب جاد مستمر وشرط تحرلاك العمالة الوطنية بين دول الخليج بحرية تامة وبمساواة في الامتيازات والفرص سيسدان منبع الزيادة السكانية المستوردة من الخارج بصورة تراكمية مؤثرة.
الوجه الثاني يتعلق بالنمو الديموغرافي بسبب العمالة المستوردة التي تفرضها كما قلنا المتغيرات الاقتصادية والخدمية في دول المجلس التي بدورها نتجت عن وجود ثروة نفطية هائلة في هذه الدول. حتى الآن هناك مبرر لازدياد سكاني بسبب تدفق هذه العمالة. لكن المفارقة ان هذه الزيادة تحدث بموازاة ازدياد في نسبة البطالة بين المواطنين. ان تلك المفارقة تشير إلى خلل كبير في إعداد المواطنين العلمي والتدريبي المطلوبين من جهة وتشوهات في قوانين وأنظمة العمل من جهة أخرى. تلك النواقص والتشوهات هي التي تؤدي إما إلى حاجة متزايدة من العمالة الماهرة المدربة الأجنبية التي لا يوجد مثيل لها بين المواطنين وإما إلى وجود عمالة أجنبية بمهارات متواضعة ولكنها رخيصة، وبالتالي تزاحم العمالة الوطنية وتأخذ مكانها، بل تهمشها في حياتنا الاقتصادية.
وإذًا فان اتخاذ الخطوات الضرورية المناسبة الكفؤة، من تعليم عصري جيد وتدريب مستمر وقوانين وأنظمة عمل وطنية، هي وحدها القادرة على إيجاد توازن حقيقي بين الوجهين الأول والثاني السابقين بحيث ان إعداد العمالة الوطنية الجيد وتحسين ظروف عملها واعتبارها جزءا من عمالة واحدة لكل دول المجلس تؤدي إلى تراجع مستمر في عدد العمالة المستوردة. إن ذلك يتطلب إرادة سياسية متناغمة عند حكومات دول المجلس ويتطلب ان تكون السياسات التعليمية والتدريبية وأنظمة العمل متقاربة إلى أبعد الحدود في كل هذه الدول.
ولما كان تنفيذ ذلك الإحلال سيتطلب وقتا طويلا فان موضوع العمالة المستوردة يجب أن يأخذ بالحسبان ليس الجانب الكمي فقط ، بل الجانب الكيفي أيضا، ذلك ان من المؤكد ان جزءا من العمالة المستوردة سيوطن ويبقى في مجتمعات المجلس. هنا يجب ان يطرح السؤال التالي من دون أي لف أو دوران: هل نريد ان نوطن عمالة عربية منسجمة اجتماعيا وثقافيا ودينا وولاء قوميا عروبيا مع المواطنين الأصليين العرب أم أننا سنظل في جنوننا الحالي من توطين لعمالة مستوردة أجنبية غير عربية ستكون في المستقبل مصدر عدم استقرار ثقافي، وبالتالي اجتماعي وسياسي في كل مجتمعات المجلس؟
الوجه الثالث للموضوع الديموغرافي يرتبط بموضوع عبثي وهو بناء مجمعات ومدن الترف الخيالية في بعض دول المجلس وذلك من أجل حفز الأغراب الأغنياء من طالبي المتعة للمجيء والاستقرار في تلك المدن أو المجمعات. وهناك مسؤولون في هذه البلدان يحلمون ان يضاعفوا بعدة مرات عدد سكان دولهم أو مدنهم بهذا النوع من البشر المستوردين. ولقد كتب الكثير عن هذه الظاهرة: ظاهرة مجمعات السكن الفاخرة المنعزلة، المستقلة بكل حاجاتها، المسكونة بأصحاب الغنى والبطر والمغامرة والعلاقات الدولية المشبوهة، المنفصلة ثقافيا واجتماعيا وولاء عن محيطها، المحاطة بأكواخ الفقراء وبمساكن المواطنين المتواضعة. ولقد بدأت دول المجلس تتفاخر فيما بينها بمن يستطيع اجتذاب أكبر عدد من الأغراب للسكن في هذه المجمعات، وبالتالي أصبحت هذه الظاهرة أحد أهم وأخطر الطرق لتفجر في عدد سكان دول المجلس من جهة ولتركيبة سكانية تهدد عروبة وثقافة واستقرار مجتمعاتها من جهة أخرى. حل هذا الوجه الثالث من المسألة يجب ان يأخذ أولوية قصوى، إذ هو مرتبط باجتماع الثروة والسلطة في يد من يمارسون هذه اللعبة الخطرة التي لن تفيد اقتصاديا إلا أصحاب المال والعقار، لكنها بالمقابل ستهدد اللحمة الاجتماعية برمتها في المستقبل المنظور. هذه اللعبة يجب أن تحاصر وتقنن وتقلص قبل فوات الأوان.
الأوجه الثلاثة تلك يجب ان تعالج في وقت واحد وبأدوات مشتركة من قبل كل دول المجلس وذلك من أجل نمو سكاني متوازن لا يضر بالنشاطات الاقتصادية والخدمية المطلوبة من جهة ولكنه لا يضر أيضا بهوية وثقافة وانتماء وروابط العروبة من جهة ثانية. طرائق العلاج واضحة ولكنها تنتظر الإرادة السياسية التي طال أمد انتظارها.