محمود القصاب
مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي النيابي والبلدي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفي ظل استمرار المأزق السياسي، وغياب أيّ أمل للخروج منه في المدى المنظور، وتزايد حدة الصراعات المذهبية بين دول المنطقة، تتصدر المشهد السياسي في البلاد بعض التحركات السياسية والحملات الإعلامية التي ترمي إلى زيادة التجييش المذهبي والتحريض الطائفي بغرض إشغال الناس والجمهور بهذه النزاعات المولدة للأحقاد والكراهية، متوسلةً في تحقيق هذا الهدف خطاباً ينضح بالطائفية ومفرداتها المستفزة.
والحقيقة أن هذه الحملات بقدر ما تبعث على السخط والألم، فإن بعضها يثير الشفقة، نظراً إلى الكم الهائل من «الغباء» و»الهبل السياسي» الذي تختزنه، خصوصاً عندما تصر على فرض استنتاجات مضللة تفتفر إلى الحد الأدنى من الموضوعية والتحليل الرزين للأوضاع السياسية محلياً وإقليمياً. بينما البعض الآخر من هذه الحملات المنسقة لا تخرج عن كونها وصفةً مضمونةً وجاهزةً «للخراب» والتحريض على زيادة الجرعات الأمنية واستمرار تأزيم الوضع السياسي والأمني وإبقائه في حالة احتقان واضطراب دائمين. ولا معنى لذلك سوى الرغبة في استمرار تسميم أجواء البلد ودفع الأمور إلى حدود الصدام المفتوح (لا قدر الله)، والقضاء على أية فرصةٍ للمصالحة الوطنية والتعايش الأخوي بين مكونات هذا الوطن.
والحقيقة أن القوى والدوائر الإعلامية التي تتكفل بهذه المهمة «المدفوعة الثمن» تحاول إقناع الناس عنوةً بصواب رؤيتها وتصويرها الخادع لحل الأزمة التي تعصف بالبلد، لذلك نراها تتحدث بصورة تحمل الكثير من الادّعاء و»الغرور» حول الخلاصات القطعية والنهائية التي تتوصل إليها من خلال قراءتها واستنتاجاتها المغلوطة للأحداث والتطورات السياسية والأمنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، متوهمةً بهذه التخرصات والترهات، أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بخصومها وجعلهم في حالة دفاع مستمر عن النفس، وتضمن هي بذلك الإبقاء على مواقعها في الهيمنة على المقدّرات العامة وزيادة الغنائم التي دانت لها بفعل الإفرازات السلبية للأزمة التي تفجّرت قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام.
مع هذه الحالة المزرية التي وصل إليها الإعلام حيث غياب الاستقلالية والمهنية، نجد أنفسنا اليوم أمام حملات إعلامية ممنهجة تفتقر إلى الموضوعية والعقلانية، تقودها قوى سياسية وأوساط إعلامية مهمتها صناعة «المغالطات» وتسويق الأوهام والفبركات، ومحاولة تحويلها إلى حقائق يتداولها الناس كما لو كانت مسلمات لا تقبل النقاش، الأمر الذي يجعل هذه القوى والشخوص الإعلامية المحسوبة عليها في حالة سباقٍ مع الزمن لتنفيذ مهمة تغييب الحقائق وإبراز المغالطات، للوصول إلى هدفها الرئيسي، وهو منع حدوث أي تطور إيجابي في الوضع السياسي الراهن، والدفع بكل السبل وفي كل الاتجاهات، لتثبيت الأوضاع القائمة وكأن شيئاً لم يحدث في هذا البلد.
وأحد هذه السبل تعمد اللجوء إلى خلط الأوراق والمواقف السياسية إمعاناً في التضليل وإحداث التشويش، كلما لاحت فرصةٌ للحوار أو انفتحت نافذةٌ للحل السياسي. واليوم يجري استغلال وتوظيف فزع وقلق المجتمع الدولي والإقليمي من تزايد خطر الإرهاب، وتصدر قضية الأمن أولويات دول المنطقة، خصوصاً مع صعود القوى الإرهابية التكفيرية أمثال «داعش» وتوابعها، وتعاظم ممارساتها الوحشية. وتجري اليوم محاولة إسقاط كل ما يخرج من تحت عباءة الإرهابيين على الواقع البحريني بشكل فج ومصطنع لا علاقة له بأسباب الأزمة الداخلية وجذورها السياسية والاجتماعية، ولا علاقة له بالمصلحة الوطنية كما تزعم، إنما كل ما تسعى إليه تبرير السياسات الخاطئة القائمة على الإقصاء الذي يرسّخ الاستفراد بالسياسة والسلطة معاً، ومعاندة إجراء أي تغيير أو إصلاح حقيقي في المعادلة السياسية الراهنة، والقبول بمبدأ المشاركة المتساوية. ولعل هذا ما يفسر الأسباب الحقيقية لغياب أو تعذّر الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السياسية حتى الآن، ما يؤكد أن هذه «الأبواق الإعلامية» ليست سوى صدى لصوت الأطراف المتضررة من الحوار ومن الإصلاح الحقيقي والمصالحة الوطنية. من هنا فإنه كلما سنحت فرصةٌ لأن تدور عجلة الحوار خرج علينا من يضع العصي في دولاب العجلة لتعطيلها، وشحن المناخ السياسي بالتوتر والاحتقان المذهبي، لتعود من جديد القبضة الأمنية تفرض نفسها على المشهد العام، ومعها يتم خنق أو نسف أية خطوة أو جهد يمكن أن يفتح آفاق الحل السياسي.
ولسنا بحاجةٍ هنا إلى الاستغراق في تفسير أو تحليل هذا الوضع الذي بات ملازماً لصفة التأزم الدائم، والذي يشير بكل وضوح إلى أن هناك بعض القوى والأطراف تعمل جاهدة وهي متكئة على مقدرات الدولة- تعمل على ترسيخ النتائج السلبية والتداعيات الكارثية التي أفرزتها الأزمة واعتبارها نتائج نهائية في صياغة وتثبيت الوضع السياسي والاجتماعي الذي أصبح اليوم أسير النظرة الفئوية والرؤية الطائفية التي تضرب وحدة البلد في مقتل، وتهدد حاضره ومستقبله. وهذه النظرة تتجلى بوضوح في العديد من الإجراءات والقرارات ذات الدلالات الطائفية والمذهبية التي يجري تشريعها وشرعنتها، مع ما تحمله من مخاطر صارت نذرها تتجمع في سماء البلد والمنطقة.
إن هذا المنهج السياسي والإعلامي الغارق في الهوس المذهبي هو منهجٌ مخادعٌ ومضلل، يعج بكل المساوئ والأباطيل. وكما قلنا عنه قبل قليل، إنه يمثل وصفة مؤكدة لخراب الوطن، فهو يشرّع الظلم والفساد والاستبداد، ويجمّل التسلط والاستئثار والإقصاء، وهو منهج لا يتحدث عن وطن موحّد، إنما يتحدث عن طوائف؛ ولا يتحدث عن مواطنين إنما عن شيعة وسنة؛ ويقف حجر عثرةٍ في طريق عودة الوئام إلى المجتمع.
لذلك هو لا يمكن أن يخدم هدف إنهاء الأزمة بل على العكس، هو يطيل أمدها ويعمّق الشرخ الاجتماعي الناتج عنها، وهو ما يلقي على كل الوطنيين المخلصين والغيورين على وحدة ومصلحة البلد، مسئولية مواجهة هذا النهج الإقصائي والطائفي، سياسياً وإعلامياً، والتصدي له وفضح مراميه سلمياً وحضارياً دونما حاجة إلى استخدام العنف أو التجريح الشخصي، فهذه أساليب ضارة ومتخلفة لا تصب في خدمة أية قضية عادلة، منطلقين من حقيقتين راسختين في الوجدان والوعي الشعبي، الأولى هي أن هذا الوطن واحدٌ موحّد، لا يقبل القسمة ولا المحاصصة الطائفية؛ والثانية أن الحالة الوطنية الشاملة والعادلة التي يجب أن تسود الوطن لا يمكن أن تأخذ مداها وأبعادها الكاملة من دون نظام سياسي ديمقراطي تعدّدي تترسخ في ظله الوحدة الوطنية وتصان فيه مرتكزات الدولة الوطنية المدنية المعافاة من الاستبداد والهيمنة السياسية والطائفية فكراً وسلوكاً.