الخيار الثاني الذي قلنا إن له «الغلبة» هو «الخيار الأمني» القائم على القمع والمنع والتشدد، وإشاعة أجواء الخوف والتلويح بالعصا الغليظة في كل حركة ومع كل موقف؟ وهو خيار يعتمد لغة «التهديدات» و «التحذيرات» المستمرة، ويحمل في يده سيف الأرزاق المسلط على أعناق المواطنين. الحقيقة أن هذا الخيار يفتح الباب على «كل الاحتمالات» وعلى مختلف السيناريوهات التي تأخذ جميعها طابع الصراع المفتوح والذي يقطع الطريق على كل المحاولات المخلصة لاستعادة البلاد المتجهة للمجهول.
ونحن هنا لا نرجم بالغيب ولا نضرب حجارة الودع في الرمال كما يقال، بل نتحدث عما نعرفه ونراه ونسمع به يومياً في خضم تطور الأحداث، ويكفي هنا التقاط أحد الملفات المهمة والمتراكمة التي أفرزتها هذه الأزمة، للوقوف على صحة وحقيقة ما نقوله: وهو ملف المفصولين والموقوفين ومنه يمكن معرفة كمِّ «العذابات» وحجم الإهانات التي تجرح كرامة المواطن، فبعض الوزارات الحكومية ذهبت إلى أقصى ما تستطيع في هذه اللعبة المرعبة فهي لم تكتف بفصل الموظفين، ولا بتجاهل الأوامر الملكية بإرجاعهم، بل تقدمت بشكاوى ضدهم في مراكز الشرطة لأنهم رفضوا أو احتجوا على هذا الفصل غير الإنساني وعلى طريقة التعامل معهم في لجان التحقيق التي اتسمت بعض أسئلتها بالعدائية والعنصرية وتحكمت في قراراتها دوافع طائفية، تذكرنا بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى.
يقال الآن إن بعض تلك الشكاوى قد جرى سحبها مؤخراً وتم شطب القضايا المرفوعة ضد المفصولين، كما تم إرجاع بعضهم إلى أعمالهم وهذا فأل حسن «إن صحت» هذه الأخبار نرجو أن تتبعها خطوات تفتح أبواب الأمل أمام بقية المواطنين المظلومين في مختلف مواقع وقطاعات الدولة وغلق هذا الملف بصورة نهائية وسوف لن نعيد قصة «البعثات» أو ما تعرض له بعض الموظفين من عقوبات قاسية وظالمة، حيث جرى حرمان بعضهم من «الترقيات» وخفض المرتبة الوظيفية للبعض الآخر، من دون أن تشفع لهم كل سنوات عمرهم الطويلة في خدمة الدولة، واليوم نحن أمام بدعة «خصم الرواتب» وهي على ما يبدو وسيلة أخرى مستحدثة إمعاناً في إنزال العقاب الصارم على الموظف «المواطن» على طريق إفقاره وإذلاله وبعد كل هذا الذي جرى نتحدث عن دولة القانون، والحرص على مبدأ تكافؤ الفرص؟ كل ذلك كان قبل الأحكام الأخيرة التي فاقت كل التوقعات.
ليس هناك دولة «متحضرة» تخاف على سمعتها، وتقول عن نفسها إنها تتمسك وتلتزم بمبادئ حقوق الإنسان، وتحترم قيم العدل والقانون، يمكن أن تتعامل مع شعبها أو جزء منه بهذه الشكل المهين والمذل، حتى وإن سلمنا بحدوث بعض الأخطاء أو التجاوزات التي ما كان لها أن تحدث ولا يمكن تبريرها. من حق الدولة أن تطبق القانون، ولكن ليس من حقها إصدار الأحكام جزافاً، ومن حقها محاسبة المخطئ، لكن ليس من حقها الانتقام منه أو محاسبته على الشبهة أو استناداً على بعض المعلومات الكيدية؟ من حقها المحافظة على الأمن والنظام، لكن ليس من حقها تصفية حسابها بهذا الشكل مع شعب اختار طريق الديمقراطية السلمي للمطالبة بحقوقه المشروعة.
إن إحدى المفارقات والملابسات التي أفرزتها الأزمة في البحرين تكمن في أن هذا «الخيار» يحظى بدعم ومساندة مطلقة من بعض القوى التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال (الجزء الأول) ووصفنا مواقفها بالتشدد و «المغالبة» خوفاً على نفوذها وقد تحدثنا عن تصدرها لواجهة الأحداث نظراً لما تتميز به من مهارة فائقة على اختراق هذه الأحداث والقدرة على التلون في المواقف، والإصرار على إشعال الساحة الوطنية بالمشاحنات السياسية والطائفية والمهاترات الإعلامية المسئولة اليوم عن إفساد الحياة السياسية والحياة العامة، وهذه القوى هي التي تسمى في تراثنا السياسي الإسلامي بأصحاب «الجوائز» أو طلاب «الصلات» و «القطاعات» وقد باتت تمثل اليوم عقبة حقيقية في وجه كل عقلاء القوم على مختلف انتماءاتهم السياسية والمذهبية، الذين يعملون ويتحركون بدافع النخوة الوطنية من أجل تطبيع هذه الأوضاع، وتهدئة النفوس والخواطر على طريق المصالحة الوطنية الشاملة وردم الفجوة بين مكونات وأطياف شعبنا.
إن للبحرين اليوم مصلحة حقيقية في نشر ثقافة الحوار والاعتدال والتسامح والتأكيد على القواسم المشتركة، وعلى حق الشراكة في الوطن بين الجميع، وبما يزيل الخوف والحذر، ويوقف الشكوك المتبادلة، وشخصنة القضايا الوطنية.
ولابد من فتح آفاق سياسية جديدة أمام الشعب والقوى السياسية، تستجيب لأولويات المواطنين وتطلعاتهم في نظام ديمقراطي يصون الحريات ويحمي الحقوق، ويعلي من كرامة الإنسان وقيم المواطنة والمساواة.
من المهم أن يدرك أصحاب الشأن، أنه في مثل هذه الظروف القائمة، ومع الاضطرابات والتحولات الكبيرة في المشهد الإقليمي والدولي لابد من الوفاء ببعض الاستحقاقات السياسية والدستورية، والتخلي عن سياسة القبضة الأمنية الحديد، فهذه السياسة لن تكون قادرة على صرف الناس أو إجبارهم على تغيير مسارهم الصحيح والعقلاني الملتزم بقضايا الوطن الأساسية، ولابد من اعتماد أو سلوك طريق الحوار و «التفاوض» ليس من أجل إقناع أو فرض وجهة نظر الدولة على الطرف الآخر، إنما الحوار الذي يؤدي إلى تقديم بعض التنازلات المتبادلة، ويوصل إلى حلول توافقية تكون مقبولة من قبل الجميع وتلغي مخاوفهم الآنية المستقبلية بعد وضع حدٍ لسياسة الاستئثار بكل شيء وحرمان الآخر من كل شيء ومن ثم إحداث ثغرة في جدار الجمود والشلل السياسي، وتحريك مواقف كل الأطراف في اتجاه مغادرة تلك المواقف والمواقع التي أغلقتها على نفسها رافضة الخروج منها؟
فالبلاد في حاجة إلى مشروع سياسي وطني يلبي مطالب الناس ويتجاوب مع طموحاتهم الوطنية بحيث يعطي المواطن البحريني حقوقه كافة في الحرية والعدالة ويطلق مبادراته الخلاقة ويحدد دوره في الحياة، مشروع يعيد للمجتمع قيم ومفاهيم الوطنية وبناء ثقافة سياسية خالية من كل نوازع الحقد والكراهية وروح الثأر والانتقام، ويقضي على سلوكيات الغلو والتطرف والانغلاق التي تشكل ثقافة سياسية متحجرة وبالية، والتي أصبحت خارج التداول المعرفي والإنساني، في كل الدول الديمقراطية والمتحضرة، ويدخل في هذا المجال أيضاً كل الأنشطة والفعاليات الاستفزازية التي تصر عليها بعض الأطراف المتشددة والتي قد تقود إلى مصادمات بين قوى المجتمع تهدد السلم الأهلي وتنذر بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر لا قدر الله، ومن دون ذلك سنبقى أسرى ورهائن بيد المتاجرين بالطائفية وعشاق الاستبداد الذين لن يتوقفوا عن تدمير هذا الوطن، للوصول إلى أهدافهم وسوف لن ننتظر طويلاً حتى نرى ونلمس حقيقة هذه الأهداف التي من أجلها تستمر هذه الأوضاع، وتستمر الأزمات المتوالدة التي تأكل من أحشاء الوطن، ومن المؤسف القول إن كل المؤشرات تدل على أن قضيتنا (بل أزمتنا) تفلت من إطارها الداخلي لتدخل في «نفق» اللعبة الإقليمية والدولية وهو ما يخشاه ويرفضه كل مواطن مخلص محب لوطنه، لأنها لعبة لا تحكمها معايير الحق ولا قيم العدالة، بل تخضع للمصالح والمساومات ولتوازن القوى بين أطراف هذه اللعبة، وهذا هو أقسى الخيارات وأكثرها وجعاً وخطورة، ولن ينفع الأسف أو الندم بعدَ… وقوع الفأس في الرأس