لا يزال الدرس الكلاسيكي في الكثير من العلوم في جامعاتنا العربية، يذهب إلى تعريف بعض العناوين إلى شقين: المعنى اللفظي للكلمة، وهو أصلها ومعناها، والمعنى الاصطلاحي، وهو الذي تعارف الناس على استعماله في حياتهم اليومية، حتى تغدو الكلمة مقصورة على الوصف الاصطلاحي لها.
في محاولة فهم الأزمة البحرينية، كان هذا واحدا من المناهج التي اخترت البدء بها، وهو معرفة من أين أتى العرب بكلمة “أزمة”. وليس كـ “لسان العرب” مجيب على هذا السؤال الذي أفرد له 717 كلمة لتعريفها، فجاء – مما جاء فيه – أن الأوازم هي أنياب الإنسان من أسنانه، وهي التي إن عضّ بها فإنه يُحكم العض على الشيء. فكانت العرب تستعمل هذه الكلمة تعبيراً عن الألم في الأساس، ومنه ألم القحط، فيقولون: سنةُ آزمة، أي أنها عضّتهم بأنيابها، والمتأزّمُ هو المتألم لأزمة الزمان [1].
وإذا ورد في الحديث – كما ينقل ابن منظور صاحب الكتاب – “اشتدّي أزمة تنفرجي”، فإن هذا يعني أنه لا بد من بلوغ العض مداه الأخير حتى يبدأ العاضّ بمباعدة “أوازمه”، لتنفرج، إذ لا بحبوحة العيش دائمة، ولا “العضّ” دائم. ولكن هذه الأزمة التي نعيشها، أو بالأحرى تعضنا بأنيابها، قد طال ألمها، وقد تجاوزت الكثير مما كنا نعتقده نهايات، وأن ليس وراء الأكمات ما وراءها، فيتبين لنا أنها لا تزال تستمتع بالعض وإغماد أنيابها في جسد الوطن، ولا يلوح إلى الآن ما ينبئ بأنها ستفرج ما بين فكيها عما قريب، إما لأنها مستمتعة بهذا العض والإيلام لأنها في منأى ومنجى منه، فلا بأس بأن يتألم الوطن ما دام هذا الأمر سيطفئ شهوة ويحقق متعة وعوائد، وإما لأنها لا تملك حلاً آخر سوى أن تعض بأقوى ما في طاقتها حتى ترى في الأمر ما تراه، لتقرر متى تبدأ التفريج عما بين فكيها.
وهذا ما كان يعرفه القدماء الذين حولوا المعنى اللفظي إلى معنى اصطلاحي. ولكن أهل هذا الزمان أعادوا إنتاج المصطلح من جديد، وأدخلوه قنوات العلوم المتفرعة، إذ واحدة من أكثر مصطلحاتها شيوعاً، أن الأزمة “هي نتيجة نهائية لتراكم مجموعة من التأثيرات أو حدوث خلل مفاجئ يؤثر على المقومات الرئيسة للنظام وتشكل الأزمة تهديداً كبيراً وصريحاً وواضحاً لبقاء المنظمة آو المؤسسة أو الشركة أو حتى النظام نفسه. وقد تؤدي الأزمات المتتابعة إلى اختلاط الأسباب بالنتائج مما يفقد المدير أو صانع القرار القدرة على السيطرة على الأمور” [2].
ويعرّفها موقع القاموس الاقتصادي بأنها “الحدث الحرج، أو نقطة القرار إذا لم يتم التعامل معها بطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب (أو إذا لم يتم التعامل معها على الإطلاق)، قد تتحول إلى كارثة أو فاجعة”[3].
ومشكلة الأزمة بحسب التعريفات المتقدمة أنها تتكئ على جملة من القرارات التي اتخذت في الماضي، أو التي لم تتخذ أساساً، وتطل على السطح برأس الجليد الذي يخبئ تحت الماء أضعاف حجمه الذي يبدو عليه [4]. وإذا أردنا الاستفادة والاستعادة من فيلم سينمائي ربما لم تفت أحدٌ مشاهدته، فإن “تايتنك” يذكرنا أن السفينة غرقت لا لأنها اصطدمت برأس الجليد (الأزمة) بل بما تكاثف أسفل السطح. فالإبحار بالقوارب مباشرة إلى رأس الجليد يعني الانتحار من دون الوصول إليه، وأن تفتيت رأس الجليد لن يعني أكثر من عدم ظهوره على السطح، ولكن الجبل سيبقى على مقربة من الظهور في أي موسم يساعد على ذلك، ومن هنا فإن الإشاحة بالوجوه لكي لا ترى الأزمة، وتجميد الأحاسيس لكي لا تشعر بالأنياب تخترق اللحم والأعصاب لتنطبق في النهاية على بعضها البعض، سيعتبر من أبواب الحٌمق الذي أعيا من يداويه، كما يقول المتنبي. لأن الخروج من الأزمة ليس إلا انتصاراً نجاة مما هو أكبر منها، كمن يستطيع النجاة من صعقة كهربية قاتلة، أو من موت محقق بين فكي أسد. إذ أن الحكمة تكمن في كيفية تجنب الوقوع في هذه الأزمة مجدداً لأنها في كل مرّة لا تقوّينا، بقدر ما تستهلك الكثير من طاقتنا وأموالنا وأعصابنا وأرواحنا وأمننا وأموال كان يجب أن تنفق في التنمية، وصورة ليعاد ترميمها في الداخل والخارج، وإبعاد أشباح تسفر عن “أوازمها” لما هو أسوأ أشد وطأة ونكالاً.
المنظرون الإداريون يفيضون كثيراً في تعريف الأزمات وأسبابها وإستراتيجيات مواجهتها، إذ أن علم الإدارة على تماسٍّ مباشر مع ما يسمى بـ “إدارة الأزمات”. إذ يشير البعض منهم إلى أن الأزمة تتكون بسبب الشائعات، والمعلومات الناقصة أو الخاطئة، مما يقود إلى تفسير آخر للحلول، أو ابتداع حلول لكنها لا تحل الأزمة، بل ربما تعقدّها وتزيدها سوءاً، والبحث عن الحلول السهلة والسريعة، وبالطبع، فإن الأزمات إن وقعت ستحتاج إلى فكر قيادي مختلف تماماً عن ذلك الفكر السائد في أوقات الرخاء.
المنظرون الإداريون يفصّلون أيضاً في كيفية مواجهة الأزمات، وأي إستراتيجية ستنفع عندها، هل هي وقف نموها، أم العنف، أم تغيير مسارها، أو التعامل معها على أنها ملفات وذلك بهدف تفتيتها، أم دفعها إلى الأمام “بدفع القوى المشاركة في صناعة الأزمة إلى مرحلة متقدمة تظهر خلافاتهم وتسرع بوجود الصراع بينهم ويستخدم في هذه الإستراتيجية تسريب معلومات خاطئة وتقديم تنازلات تكتيكية لتكون مصدراً للصراع ثم يستفاد منها” [5].
ولكن بدلاً من إشغال وتشغيل هذا الكمّ من المحللين والمنظرين، والتطويح بأية أزمة يميناً وشمالاً، فإنه من الأكثر جدوى سد أبوابها تماماً، وإحكام إغلاق رتاجها، وذلك بمنعها من الدخول والتكاثف حتى تغدو كتلة صماء من الملفات التي يؤمَّل ألا يتم فتحها، والمسارعة في مجتمع صغير لا توجد فيه أسرار كمجتمع البحرين لالتقاط المعلومة وتحليلها حتى يمكن أن تذوب بالحل بدلاً من أن تيبس لتكون صخرة في جبل المشاكل الأخرى، أو تتحول في النهاية إلى وحش يعضّنا ويأزمنا في كل عقد مرة أو مرتين، فيُفتن الناس، وندخل في بحر التلاطم الذي يقدَّر له ألا تسكن أمواجه لتتدحرج الأزمات من منطقة إلى أخرى فتتلاقى مجدداً لتشكل جبل جليد أكبر من السابق نظراً للاستهانة بقوة الماء إن تجمّع وتجمّد.
هوامش:
[1] لقراءة المزيد في باب “أزم” في لسان العرب، يمكن الرجوع إلى http://www.alwaraq.net/Core/AlwaraqSrv/bookpage?book=89&session=ABBBVFAGFGFHAAWER&fkey=2&page=1&option=1
[2] عبدالرحمن تيشوري، إدارة الأزمات والمشكلات، الحوار المتمدن،
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=49448
[3] http://www.businessdictionary.com/definition/crisis.html
[4] باري جرينوالد، ما هي الأزمة؟، http://www.uic.edu/orgs/convening/crisis.htm
.[5] تيشوري، مصدر سابق
جريدة البلاد البحرينية : الخميس 3 نوفمبر 2011م العدد1115