هذه ملاحظات كانت حصيلة النظر لمشهد الحراك التاريخي العربي السياسي الحالي: الملاحظة الأولى تتعلق بالشعارات السياسية التي طرحتها لافتات المسيرات والاعتصامات. فالشعارات الناجحة تحتاج أن تركٌّز على الأولويات المفصليًّـة الكبرى، وأن تكون وطنية جامعة تقبلها أغلبية كبيرة من مكوٍّنات المجتمع، وأن لا تغفل أهمية التوازنات والثًّوابت الإقليمية أو القومية وكذلك أهمية تعاطف الخارج معها، وأن لا تصاحبها مظاهر رمزيُّة فئويًّة يشتُّم منها الطائفية أو العرقية أو القبلية، وأن على الأخص لا تصطدم بمرتكزات تاريخية ودستورية قامت عليها الدولة وتوافق عليها المجتمع عبر سنين طويلة. ولذلك فان شعاراً بالغ الخطورة من مثل إسقاط النظام قد يكون طرحه ملائماً في قطر عربي معيًّن، إذ تتوفر فيه أغلب المتطلبات السًّابقة الذكر، ولكن طرحه غير ملائم في قطر عربٍّي آخر بسبب عدم توفُّر أغلب تلك المتطلبات.
مثال آخر هو طرح شعار سياسٍّي فرعي أني مربك للحراك السياسي ومعقٍّدٍ له، بينما يعرف الجميع أن تحقًّق ذلك الشٍّعار سيكون تحصيل حاصل إذا تحُّقق مطلب آخر ولكنه مفصلي كبير من مثل المطالب الدستورية أو القانونية – فاذا كنت تطالب بنصًّ دستوري يلزم أن تكون الحكومة في المستقبل حكومة منتخبة فما الحكمة من الدخول في مماحكات وصدامات مع هذه الجهة أو تلك بشأن شعار إسقاط حكومة حالية ستتغيًّر طبيعتها وتركيبتها في المستقبل المنظور إذا حصلت على المطلب الدستوري؟ أليس في ذلك ممارسة عبثية في المسرح النضالي السياسي وانتهاء بالفروع على حساب الأصول؟
الملاحظة الثانية تتعلق بشروط الدخول في الحوارات والمفاوضات بشأن المطالب. أن يوضع شرط تحديد زمن معقول لفترة الحوار فهذا مقبول، حتى لا يدور الحوار حول نفسه لسنين طويلة. أن توضع قائمة بالنقاط التي ستناقش، حتى لا يضيع الحوار في متاهات لا أول لها ولا آخر، فهذا معقول أيضاً. أما أن توضع شروط فرعية كثيرة، يمكن مناقشتها وتحقيق بعضها في أولى جلسات الحوار، هذا في الوقت الذي يموج الشارع بأحداث يومية قد تنحرف عن مساراتها لهذا السبب أو ذاك، فان الشروط قد تصبح عقبة تؤجٍّل الدخول في الحوار الجدٍّي المطلوب وتضيع الوقت وتؤدّي إلى ملل وتعب الجماهير المساندة للحراك السياسي.
وتتعقًّد الأمور أكثر عندما يطالب البعض بضمانات لنجاح الحوار، خصوصاً إذا كانت تلك الضمانات ستكون دولاً خارجية أو شخصيات أجنبيًّة. والواقع أن الحراكات السياسية التي لا تعتمد على حيوية الجماهير كضامن وحيد لنجاح أيًّ حوار أو تفاوض، ولا تؤمن بقدرة تلك الجماهير للعودة للشارع عند تعثُّر الحوار أو التفاوض، إنُّما تعبٍّر عن إفلاسها وعقمها وضعف علاقتها بجماهيرها.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالخلط بين حقًّ حريًّة التعبير وبين حقٍّ حريُّة الفعل. أن تمارس الحقًّ الأول، حقًّ التعبير الحر عن شعاراتك السياسية ومطالبك، بشرط عدم السقوط في الشتم والجرح والابتذال، فهذا مكفول في الدساتير وقوانين حقوق الإنسان. أمُّا حرية الفعل كسدٍّ طريق بالحواجز أو احتلال باحة أبنية، فانه اعتداء على حقوق الآخرين، وبالتالي لا يمكن ممارستها.
الملاحظة الربعة تتعلق بالسماح بالدخول المفاجئ للمسرح من قبل الموتورين الطائفيين أو الثًّوريين الحالمين أو الانتهازيين الرًّاكبين موجات الغير. وسواء أكانوا من المتنطٍّعين للقيادة المفاجئة أومن الكتبة المملوءة نفوسهم بالحقد والكراهية لهذه المجموعة أو تلك أو ممًّن يطلًّون على شاشات التلفزيون المحلية والإقليمية والعالمية ليتًّهموا ويشتموا، فإنهم جميعاً يشوٍّهون ويدنسون مطالب سياسية شرعية ومعقولة، هي في صالح الجميع، ليقلبوها إلى مطالب فئويًّة مختلف عليها ومشكوك في نيًّة من رفعوها في الأصل. هؤلاء ينطبق عليهم قول بليغ للشاعر الانكليزي سامويل كولرج: الشًّخص الذي يبدأ بحبٍّ المسيحية أكثر من حبًّه للحقيقة ينتقل إلى حبّه لمذهبه أكثر من مسيحيًّته، لينتهي بحبٍّه لنفسه أكثر من كلٍّ الآخرين: فالذين لا يُّهمٌّهم الحق مهما كان ناصعاً، ولا تهمهم أحوال الآخرين مهما كانت مفجعة ينتهون بان يكونوا من المتعصٍّبين الذين وصفهم الشاعر جون كيتز بأنهم ينسجون بأحلامهم جنًّة لمذاهبهم وطوائفهم.
هؤلاء جميعاً لديهم قدرة عجيبة على قيادة الحراكات السياسية النًّظيفة المبهرة إلى جحيم الطائفية أو إلى الضُّياع والهرج والمرج السياسي. هؤلاء يمتصُّون رحيق الشباب الطاهر المضحٍّي النّبيل لينتجوا عسلاً كريه الرائحة بمذاق العلقم.
الثورة العربية الكبيرة المبهرة ستستمر. سترتكب الأخطاء وتتعثًّر ولكنها ستقوم من كبواتها وستواصل السًّير. شعوب العرب يجب أن تتذًّكر الحكمة الإلهية من أن الزًّبد يذهب جفاء وأمًّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. ومنذ قرن وجٌّه الشاعر رديارد كبلنج رسالة إلى أبنه، منها قوله: إذا كنت ستواجه النًّصر والهزيمة بنفس العزيمة.. فانك ستملك الأرض ومافيها، وفوق ذلك ستكون رجلا.