افتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر تشرين الاول 2015
انتفاضة فلسطين ومقاومة العراق تكاملية المفاعيل والأهداف
منذ أقدم العدو الصهيوني على اقتحام الأقصى لفرض التقسيم الزماني والمكاني على رواده وحرمه بهدف تمكين اليهود من الدخول إليه وممارسة طقوسهم الدينية فيه في الزمان والمكان المحددين لهم، هبت جماهير فلسطين منتفضة، غير آبهة بترسانة العدو العسكرية، وغير منتظرة لقرار سلطوي، وغير مقيدة بمكان حراكها وزمانه.
نزلت جماهير فلسطين إلى شوارع القدس وكل مدن الضفة وامتدت تشمل عموم فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. وهي بما تيسر لها تصدت للصهاينة الذين ينظر إليهم كمستوطنين في الضفة والقطاع، ومواطنين مكتسبين لهذه الصفة استناداً إلى الاغتصاب الذي تشرع بقرار دولي.
في القدس كما في رام الله، وفي الخليل ونابلس كما في الناصرة والجليل الصهاينة هم هدف للمقاومين الشعبيين. لا فرق أن كانوا بلباس عسكري ومدججين بسلاح أو بلباس مدني، فطالما هم جزء من التكوين المجتمعي الصهيوني، فهم محتلون. وكل محتل يجب مقاومته وهذه ليست سنة طبيعية وحسب بل هي شرعة أكدت عليها المواثيق الدولية، وتتلخص بحق الشعوب في تقرير مصيرها ومقاومة محتليها. ولا شرعة تعلو على شرعة هذا الحق الإنساني.
وعندما تنزل الجماهير الفلسطينية إلى الشارع منتفضة ومتصدية لمغتصب أرضها ومنتهك حرماتها الإنسانية والدينية، فإن اعتبارات الفواصل السياسية، تتراجع أمام اعتبارات الوطنية الجامعة، ويصبح الكل الشعبي بكل أطيافه في مواجهة الكل الصهيوني الذي تختلف أطرافه في إطار الصراع على السلطة وتتفق على اغتصاب الأرض وتهويدها وطرد شعبها ودفعه للتيه في عالم الشتات.
بهذا النزول الشعبي إلى ميدان المواجهة، تخرج المنازلة من ميدان التصادم بالسلاح إلى ميدان التصادم بالإرادات وعندها لا تعود موازين القوى بنصاب قواها المادية تؤخذ معطياتها بعين الاعتبار لتحديد مسار الأحداث وإفرازات الوقائع وترتيب النتائج السياسية.
إن الكيان الصهيوني الذي يتصرف بالاستناد إلى موازين القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية في ظل انفتاحه على مصادر الدعم والإسناد الدوليين والتقاطع الإقليمي الذي تتماه بعض مواقعه معه، يقع في تعامله مع الانتفاضة في الحسابات الخاطئة، لأن السلطة التي تعامل معها وقوى المقاومة التي انخرط في منازلة عسكرية معها أدارت الصراع بالأساليب التقليدية المتعارف عليها، وهذا ما جعله دائماً في الموقع الأقوى لفرض خياراته والترتيبات السياسية والأمنية التي يراها مناسبة له.
أما وأن تخرج هذه المواجهة عن اعتماد الوسائط التقليدية فهذا تطور نوعي في مسار الصراع، وأن تأثيراته المباشرة لا تطال البنية العسكرية إلا ما كان مشخصاً في أدواته المباشرة في حلبة التصادم وأما التأثيرات الأساسية هي التي تطال البنية المجتمعية الصهيونية.
إن العدو الصهيوني يعمل بكل إمكاناته لتوفير بيئة آمنة للصهاينة، سكناً وتنقلاً، وعيشاً، وعندما يشعر الصهاينة أن هذا الأمن لم يعد متوفراً لهم رغم الآلة العسكرية التي يجوز عليها، فهذا يعني أن الطرف المقابل وهنا الشعب العربي في فلسطين قد عرف نقطة الضعف عند العدو وعرف أين المقتل وإليه جرى تصويب السهام.
لقد استطاعت جماهير فلسطين وخلال أسابيع قليلة أن تربك الأمن المجتمعي الصهيوني، وتجعل الصهاينة في طول أرض فلسطين وعرضها ضمن دائرة الاستهداف، بالحجارة والسكاكين والدهس وهذا لا يعني عسكرة للانتفاضة، لأنها لو حملت السلاح الناري لما استطاعت أن تحقق الغاية المرجوة. فالحجارة يرشق الكل بها، والسكاكين بإمكان الكل القبض على مقابضها والدهس لمن استطاع إليه سبيلاً. وأن تستمر هذه الانتفاضة أسابيع وهي مفتوحة على الزمن فهذا يعني أنها تحمل في طياتها ذخراً نضالياً بعضه ذاتي ناتج عن التراكم النضالي الذي تختزنه الجماهير الفلسطينية في ذاتها الوطنية وهي تخوض نضالاً يمتد لأكثر من قرن من الزمن، وواجهت وتواجه كل أشكال القهر الاجتماعي والاستلاب الإنساني ببعديه الوطني والقومي. وبعض يتجاوز البعد الذاتي إلى البعد الموضوعي المحيط.
هذا البعد الموضوعي يتجلى في كون فلسطين لم تكن مستهدفة لذاتها وحسب، وإنما أيضاً الأمة العربية بكل تراثها وقيمها ومقدراتها وثرواتها، وما ينطبق على فسلطين، ينطبق على كل موقع عربي كان عرضة للاستهداف المعادي والأطباق الشامل على الوطن العربي والعدوان على العراق أنموذجاً.
لقد شنت الحرب على العراق استناداً إلى تبريرات واهية وهي حيازته أسلحة دمار شامل وعلاقة مزعومة مع "القاعدة" وقد ثبت كذب هذه التبريرات باعتراف أميركي. وعندما أقدمت أميركا ومن معها على احتلال العراق، لم يتأخر بوش الابن ليعلن أن أميركا ستبقى طويلاً في العراق. وهو عندما أطلق هذا التصريح استند إلى حسابات موازين القوى المادية والتي تعطي لأميركا قدرة لا تتميز لغيرها من الدول فكيف بالنسبة للعراق وهو دولة صغيرة وتعرضت لحصار دام أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
هذا التقدير الأميركي، استناداً إلى حسابات موازين القوى المادية، أغفل عاملاً أساسياً في ترتيب النتائج السياسية النهائية إلا وهي الإرادة الشعبية. فأميركا عندما نظرت إلى قدراتها بالقياس إلى ما يمتلكه العراق حسمت أمر النصر لها، لكن عندما دخلت إلى ميدان المنازلة، عوامل غير محتسبة بمقاييس القوى المادية، تغيرت النتائج السياسية التي ترتبت على الاحتلال.
لقد استطاعت مقاومة الشعب في العراق أن تلتقط زمام المبادرة وأن تخوض مواجهة أدت إلى فرض الانسحاب على قوات الاحتلال، وتفرض نفسها طرفاً أساسياً في معادلة الوضع الساسي الداخلي، وتقدم نفسها الشرعية الوطنية التي تمثل الإرادة الشعبية في تعبيراتها السياسية ضد الاحتلال بكل أشكاله ونماذجه، وضد إفرازات الاحتلال بكل أدواتها الداخلية ورافعاتها الإقليمية وأن تصوغ البرنامج السياسي الذي يحاكي الطموح الشعبي في البناء الوطني الديموقراطي، وأن تفرض على كل من أراد أن يضرب الإرادة الوطنية عبر أساليب الاجتثاث أو الالغاء أن يعيد النظر في حساباته وتقديراته. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على أن الإرادة الشعبية قادرة على فرض نفسها انطلاقاً من صدقية سلوك أصحابها وشفافية أدائهم والارتقاء في تحمل المسؤولية إلى مستوى الشهادة وهي أرقى وأسمى العطاءات.
إن الشعب عندما يرى بأم العين ممارسات الذين ينهبون ثرواته ويرتهنون لإرادة المحتل الأجنبي، وممارسات الذين يقدمون قوافل الشهداء انتصاراً للقضايا الوطنية وحق الشعب في العيش الحر الكريم وتقرير مصيره بعيداً عن إملاءات الخارج والارتهان له، لا يجد صعوبة في تحديد موقفه واصطفافه وعندما يصطف الشعب مع المعبر بصدق وأخلاص عن أهدافه وأمانيه ومصالحه يكون هو الرابح حكماً. وأن ربحه الوطني بالمعنى السياسي لا يقتصر على ساحته، بل يعبر إلى ساحات أخرى متصلة ببعضها البعض تواصل الأوعية المتصلة. فإذا ارتفع المنسوب في أحداها، حصل الارتفاع الطبيعي في الآخر.
من هنا، فإن صمود الإرادة الوطنية في العراق عبر انتصار المشروع المقاوم، ضخ في أقنية التواصل العربي إلى حيث تواجه الجماهير العربية وضعاً مماثلاً، وهل هناك وضع أكثر مشابهة من الوضع في ساحة فلسطين!!
إن جماهير فلسطين أذ تشتد الثقة بنفسها، فلأنها عايشت وتعايش تجربة نضالية خاضها شعب العراق وهو يقاوم العدوان والاحتلال. كما عايشت تجربة الفعل المقاوم للاحتلال في لبنان.
وعندما تعيش جماهير فلسطين لحظة اندحار القوات الأميركية وهي قوات الدولة الأقوى في العالم، وتعيش تجربة اندحار العدو الصهيوني من لبنان وعدم تمكينه من تحقيق أهدافه، تعي جيداً أنها منتصرة وتستمد ثقة إضافية بنفسها.
إن المقاومة الوطنية في العراق والفعل المقاوم للاحتلال في لبنان مدا جماهير فلسطين بضخ تعبوي، يعبر عن نفسه اليوم بانتفاضة الشعب الصامد المطافح كما عبر سابقاً في تصديه للعدوان المتعدد الفصول على غزة وهذا أول الغيث. لأن شعباً فطر على المقاومة، وتواصلت أجياله مع المسيرة النضالية لن تسلب إرادة الحياة منه بفعل القوة العسكرية وعمليات الاقتلاع "والترانسفير".
فمن يرفع القبضات في وجه آلة العدو، ومن يقبض على السكين ومن يقتحم عمق الأمن المجتمعي الصهيوني لن يقبل بأقل من انتزاع حقوقه الوطنية المسلوبة. وهذا ما يتطلب أن تبقى الانتفاضة على زخمها، كي تعيد تصويب الأمور بالاتجاه الصحيح، اتجاه التحرير وطرد المحتل والأهم من كل ذلك أن الانتفاضة أعادت تأكيد المقولة التي تقول بأن الكفاح الشعبي هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين. وأن الوحدة هي الطريق نحو فلسطين، والوحدة هي الوحدة الشعبية بإرادة الفعل المقاوم الذي يمارس على أرض الرافدين كما يمارس على أرض الأقصى عبر تلاق في الأهداف وتكاملية في المفاعيل. انها تعبيرات الثورة العربية حيث استطاعت الإفصاح عن نفسها وعلى هذا الأساس يجب ملاقاتها على قاعدة البرنامج المتوجه نحو التحرير.