على مدى ثمانية أيام، كانت غزة مزنرة بحزام ناري صهيوني، براً وبحراً، وتحت أطباق جوي لم تتوقف غاراته ليلاً نهاراً، ولم يوفر القصف الجوي والبري والبحري، بشراً ولا حجراً ولا شجراً، وطال المرافق الإنسانية الخدماتية، والبنى التحتية، والمرافق العامة والمؤسسات الإعلامية، وبشكل عام كل ما له علاقة بدوره الحياة العامة.
هذا الأطباق الناري، لم يحل دون مقاومة، استطاعت في ظل عدم تكافؤ القوة النارية، أن تحدث توازناً تجاوز حدود الناتج العسكري لسير العمليات إلى الجانب النفسي، حيث شكل عاملاً ضاغطاً على الإدارة السياسية للعدو من جهة، وعاملاً محفزاً للمقاومة من جهة أخرى.
لقد أثبتت وقائع المواجهة الأخيرة، أن إتساع مديات هذه المواجهة العسكرية لتشمل العمق الداخلي، إنما يقدم دليلاً جديداً، على أن إسقاط نظرية الأمن الصهيوني التي بنيت أساساً، على أن مسرح العمليات يجب أن يكون دائماً على أرض الخصم (العربي)، هي المدخل الصحيح لإخراج مفهوم المواجهة من تقنيات آلياتها العسكرية، إلى مفهوم المواجهة الشاملة بكل أبعادها ومفاهيمها.
هذه النظرية التي ضرب أول اسفين بها، العراق يوم قصف بصواريخه الكيان الصهيوني عام 1991، ضرب فيها اسفين ثانٍ يوم قصفت صواريخ المقاومة من لبنان العمق الفلسطيني المحتل إبان عدوان تموز 2006، ثم جاء الاسفين الثالث في رد المقاومة الفلسطينية على عدوان 2008/2009، وبشكل أفعل تأثيراً في الرد على العدوان الأخير لأنه قارب القدس المحتلة و"تل أبيب".
بطبيعة الحال أن الخسائر المادية والبشرية التي طالت غزة، مدينة وقطاعاً، تفوق كثيراً الخسائر التي طالت الكيان الصهيوني، لكن في حساب الربح والخسارة في الصراعات، والتي تكون الحروب العسكرية، أكثر تعبيراتها عنفاً، لا يقاس الربح والخسارة، بما يتحقق على الأرض وبحجم الخسائر المادية بل يقاس بحجم الناتج السياسي وفي أي اتجاه يتم توظيف هذا الناتج. إذ ليس في كل مرة يكون الرابح عسكرياً، رابح سياسياً. وهذا ما حصل بعد حرب تشرين، إذ رغم الإيجابيات التي حققها العرب في تلك الحرب، وكانت قفزة نوعية في سياق المواجهة العسكرية مع العدو، إلا أن التوظيف السياسي لذلك المعطى الإيجابي لم يثمر سياسياً كما يجب أن يكون، بل جرى توظيفه بشكل سلبي، وبما شكل قفزة نوعية انحدارية في سياق الصراع المفتوح بين الأمة العربية والمشروع الصهيوني.
وعندما يراد التدقيق بمن هو المنتصر في معركة أو حرب، فإن من أن يستطيع أن يحقق فوزاً عسكرياً ويفرض شروطه السياسية يكون عندئذ منتصراً. وفي السياق نفسه، فإن من يسعى لخوض غمار منازلة، ولا يستطيع تحقيق أهدافه، فإنه يكون خاسراً سياسياً في محصلة النتائج. ولهذا يحق لأحد الفريقين أن يقول أنه انتصر، لأنه منع الطرف الآخر من تحقيق أهدافه.
بالعودة إلى جولة المواجهة الأخيرة بين العدو الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، فإنه لا جدال فيه ولا نقاش حوله، بأن العدو الصهيوني هو من بدأ العمليات العسكرية، ونقول العمليات العسكرية، لأن وجوده بالأساس يشكل حالة عدوان دائم على فلسطين ومعها الأمة العربية وقد قيل كثير حول أهداف العدو من وراء عدوانه الأخير، بعض قال أنه مرتبط بتحضيرات العملية الانتخابية، وبعض قال، أنه اختبار لفعالية القبة الحديدية وبعض قال أنها عملية اختيار للإدارة الأميركية الجديدة، وبعض قال، إنها اختبار للإدارة السياسية الجديدة في مصر، في تعاملها مع القضية الفلسطينية خاصة وأن النظام الجديد في مصر هو على تماه مع الإدارة السياسية في غزة. قد تكون أن كل هذه الاحتمالات فيها بعض الصحة، لكن من يقدم على عمل معين، إنما يهدف إلى التركيز على هدف محوري من ضمن مروحة أهداف أخرى، تأتي في السياق العام، أو يصار إلى تحقيقها في سياق التوظيف السياسي.
إن ما نعتبره هدفاً مركزياً للعدوان الصهيوني الأخير، يتجاوز كل هذه الاحتمالات، لأننا ندرجه في سياق فهمنا لطبيعة المشروع الصهيوني الذي يجسد كيانه الاستيطاني حاله عدوانية دائمة وأن اي تصرف صهيوني في سياقاته العسكرية والسياسية والإعلامية، لا يدرج ضمن سياقات هذا المشروع الأصلي، يبقى بعيداً عن مقاربة الهدف المركزي الكامن وراء هذا التصرف.
إن الهدف المركزي للعدو الصهيوني، هو السيطرة الجغرافية على كل فلسطين أولاً، ومن ثم تحويل هذا الإسقاط الجغرافي لفلسطين، إلى إسقاط تاريخي لهوية فلسطين القومية، والى إسقاط سياسي لأي مشروع وطني فلسطيني، وقومي عربي في استعادة فلسطين إلى حاضنتها القومية العربية.
على هذا الأساس، عمل ويعمل الكيان الصهيوني على توظيف كل ناتج سياسي لأي مواجهة، في سياق الهدف المركزي الذي يسعى إليه، وان السبيل الأكثر نجاعه له، هو أن لا يكون الجانب العربي في كليته واقفاً على أرضية موقف وطني واحد، وأن لا يكون الطرف الفلسطيني واقفاً على أرضية موقف موحد في تعامله مع معطى الصراع المفتوح.
إن الانقسام العربي بقدر ما شكل مصدر ضعف للموقف العربي، فإنه شكل محفز قوة للمشروع الصهيوني، لأن القوة لا تفرزها عناصرها عند طرفها وحسب، بل أيضاً تبرزها أيضاً حالة الانقسام عند الطرف الآخر، وبالمقدار الذي يشكل انقسام الموقف العربي، عامل تقوية للموقف الصهيوني فإن انقسام الموقف الفلسطيني ووصوله حد التناحر والتصادم السلبي بين أطرافه لا يشكل عامل تقوية للموقف الصهيوني وحسب، بل عامل إسقاط سياسي للموقف الوطني الفلسطيني، وهذا ما سعى ويسعى إليه العدو.
من هنا، يجب النظر إلى نتائج المواجهة الأخيرة من خلالها انعكاساتها على الموقف السياسي العربي، وبشكل خاص الموقف السياسي الفلسطيني. وإذا كان الموقف السياسي العربي وخاصة على المستوى الرسمي لم يرتق إلى مستوى الطموح الوطني ولن يرتقي في ظل هذا المعطى القائم، كونه ما يزال يحاكي موضوع الصراع انطلاقاً من التسوية مع العدو والتي في ظل موازين القوى القائمة الحالية، لا تعدو كونها تسليم بشروط العدو، فإن الاختبار العملي ينصب على الموقف الوطني الفلسطيني وعليه تقاس مسألة الخسارة والربح. فإذا أدت الانعكاسات السياسية إلى إتساع الشرخ السياسي داخل الساحة الفلسطينية، يكون العدو قد حقق كسباً سياسياً، بغض النظر عن سياقات المنازلة العسكرية، وإذا أدت الانعكاسات إلى تضييق مساحة الشرخ السياسي في الساحة الفلسطينية، يكون العدو قد فشل في تحقيق أحد أهدافه السياسية وبالتالي تكون المقاومة هي المنتصرة سياسياً، وأن كانت معطيات الوضع الميداني غير ذلك.
إن المواكبة السياسية الفلسطينية، للمعركة العسكرية التي استمرت لثمانية ايام، لم تكن بالمستوى المطلوب، لأنها لم تدفع بالأطراف السياسية المحورية في الساحة الفلسطينية إلى تطوير مواقفها باتجاه إعادة التموضع السياسي لهذه الأطراف تحت مظلة مرجعية سياسية واحدة. بل بقيت المحاكاة تنطلق من رؤيتين وما بينهما من تحفظ، وهذا بطبيعة الحال لا يخدم القضية الفلسطينية. بل على العكس من ذلك إنما يخدم العدو الصهيوني الذي يريد تثبيت واقع الانقسام السياسي والتعامل مع الحالة الفلسطينية باعتبارها محكومة بتعددية المرجعية.
إنه لا يكفي، ان تصدر مواقف فلسطينية مؤيدة لحماس ومن معها في معركتها الأخيرة مع العدو، لأن المعركة هي ليست معركة غزة ولا معركة القوى التي أدارت الجانب العسكري من المقاومة، بل هي معركة فلسطين بكل ما تعني الكلمة من دلالات نضالية وسياسية، وعليه كان على كل الأطراف الفلسطينية ان تعتبر نفسها منخرطة في هذه المواجهة، وبالموازاة نفسها، فإن إقدام مرجعية سياسية فلسطينية على العمل لتطوير فعالية الحضور الفلسطيني على المستوى الدولي وآخرها مبادرة السلطة، للحصول على عضوية دولة مراقبة لفلسطين في الأمم المتحدة والتي هي إنجاز سياسي هام فيما لو حصل، ليس هدفاً فئوياً، ولا يتم التعامل معه من خلال التأييد من مرجعيات فلسطينية أخرى، بل باعتباره واحداً من المعارك السياسية التي تخاض في سياق المواجهة الشاملة المتعددة الأشكال والتعبيرات.
من هنا، فإن المواجهة الأخيرة في غزة، يجب أن لا توظف في تقوية موقع هذا الفريق ضمن خارطة القوى السياسية الفلسطينية، على حساب مواقع أفرقاء آخرين، كما أن المواجهة الدولية في الأمم المتحدة يجب أن لا توظف في تقوية موقع فريق سياسي على حساب أخرين، بل كل هذه الأشكال يجب أن توظف في سياق تقوية الموقع الفلسطيني. وهذا لن يحصل إلا إذا أعادت القوى السياسية الفلسطينية النظر في خارطة تموضعها السياسي عبر السعي الحثيث لإعادة إنتاج مرجعية وطنية فلسطينية واحدة، تكون قادرة على محاكاة الواقع الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة وخارجها، كما تكون قادرة على محاكاة الواقع العربي برؤية وموقف موحدين، وتكون قادرة على محاكاة المجتمع الدولي، التي باتت بعض دوائره تقارب الحقوق المشروعة لشعب فلسطين.
إن المطلوب، ليس ان تؤيد فتح حماس، وهي تقود سلطة في غزة، ولا أن تؤيد حماس، فتح وهي تقود سلطة في الضفة، بل أن على الطرفين أن يعملا بمسؤولية وطنية لإنتاج مرجعية وطنية واحدة. وعندها لا يكون هناك لا فتح ولا حماس، ولا يعود هذا الانقسام الفئوي يعكس نفسه على المعطى الشعبي. ولا تعود هناك، إمكانية لأي طرف إقليمي أو دولي يعتبر أنه يملك ذراعاً فلسطينياً في خدمة أهدافه السياسية.
ان الكيان الصهيوني هو حالة عدوان دائمة، والعدو تاريخه مثقل بجرائم الحرب، ويكفي تدليلاً على ذلك، أن بريطانيا اشترطت لتأييد طلب فلسطين الحصول على العضوية المراقبة، هو الالتزام بعدم مقاضاة "إسرائيل" بجرائم الحرب.
من هنا، فإن الرد على العدوانية الصهيونية الدائمة والتي كانت جولتها الأخيرة في غزة واحدة من تعبيراتها، هو بإعادة انتاج وحدة وطنية فلسطينية تذوب فيها التسميات والمواقع الفئوية، وعندها لا يكون العدد قد خسر سياسياً معطى آخر جولة من عدوانه فقط، بل تكون المقاومة الفلسطينية ايضاً قد استطاعت أن تثمر المواجهة العسكرية في رد سياسي استراتيجي يكون بحجم التحدي الذي يمثله المشروع الصهيوني، ويكون قادراً على إعادة الاعتبار للكفاح الشعبي بكل أشكاله وتعبيراته والذي بدون اعتماده لا يمكن لفلسطين ان تستعاد ولا للأمة أن تسترد هذا الحق التاريخي المغتصب.
إن فلسطين لن تحررها الحكومات وإنما الكفاح الشعبي المسلح، وأمتنا موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح، سلاح النار وسلاح الموقف، والوحدة طريق فلسطين. هذه رؤى ثورية أطلقت منذ بدأت المواجهة مع العدو تأخذ بعداً شعبياً قومياً، والواقع العملي، يعيد التأكيد عليها، وأن لم تتجه الأمور على الساحة الفلسطينية إلى إعادة إنتاج مرجعية وطنية فلسطينية وعلى قاعدة برنامج وطني مقاوم واحد، فإن كل التضحيات التي قدمت لن توظف في سياق مشروع انقاذي لفلسطين وعندها سيسقط الخيار الوطني الفلسطيني المفتوح على افاقه القومية، لحساب خيارات الالتحاق السياسي الكياني. وعندها تكون قد اكتملت خطوات مشروع الإسقاط التاريخي لفلسطين، والإسقاط السياسي للمشروع الوطني الفلسطيني.
فهل، تكون التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، كافية للضغط على الجميع في الساحة الفلسطينية لاستعادة الوحدة الفلسطينية، ام أن الحساب السياسية الفئوية "والشرعيات" التمثيلية، التي لا يبدو العدو منزعجاً من قيامها، ستبقى هي السائدة في وقت رفعت فيه جماهير فلسطين، الشعب يريد الوحدة وإسقاط الانقسام.
إنه سؤال موجه إلى الجميع على الساحة الفلسطينية ودون استثناء لأنه لا حقوق وطنية فلسطينية، دون وحدة وطنية فلسطينية على مستوى الموقف وعلى الأرض. وعلى القوى الفلسطنية ان تجيب على السؤال بصدقية الموقف والممارسة، والا ستسقط كما سقط غيرها في الاختبار التاريخي حول مبدأية الموقف من الحق التاريخي في فلسطين…
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.