افتتاحية طليعة لبنان الواحد شهر تموز 2013
"تموز" رمزية للثورات التغييرية
تقول الأسطورة أن "تموز" هو اسم بابلي، واصله سومري ومعناه "ابن الحياة" وتشير الأسطورة أن تموز هو اله وينتقل من بلاد إلى أخرى، وكان اسمه يتغيرـ وهو أن مات فلا يلبث أن يقوم منتصراً على الموت.
كان يسمى عند السومريين "دموزي" وعند البابليين "تموز" وعند الفنيقيين "أدونيس" وعند الحثيين "آتس" وعند المصريين "أوزيرس" وعند الفرس مثيرا.
تموز الذي يسمى في التقويم الشهري "يوليو" نسبة إلى يوليوس قيصر أهم أباطرة الرومان، اختاره الاخير ليطغى اسمه عليه نظراً لما ينطوي عليه من دلالة تاريخية في الأسطورة، وبالتالي بات شهراً مميزاً في الحياة البشرية، وربما كانت حرارته الطبيعية المرتفعة ذات اثر في ارتفاع حرارة الثورات التي أرخت أيامها في هذا الشهر.
إن تموز الذي نظر إليه بأنه يمثل حالة رمزية في الأسطورة في العهود القديمة، لم يكن أقل شأناً في رمزيته بما تعلق بالصراعات السياسية – الاجتماعية. فأيامه أرخت لمحطات مفصلية هامة في التاريخ الحديث. ومنذ أن بدأت رياح التغيير تضرب جنبات المجتمعات التي عانت طويلاً من الاحتلال والاستلاب الإنساني والاستعباد الاجتماعي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الرابع من تموز 1776، هو يوم اعلان شرعة الاستقلال الأميركي عن الاحتلال البريطاني، والرابع عشر منه عام 1789 هو يوم سقوط الباستيل وما كان يمثل من رمز للعبودية الملكية والإقطاعية في فرنسا خاصة وأوروبا عامة.
ومن الغرب، إلى الشرق، فإن الثالث والعشرين منه، هو يوم انتفاضة شعب مصر بقيادة كوكبة من الضباط الأحرار ضد "السراي" والحاكم البريطاني، ويوم الرابع عشر منه عام 1958 كان إعلان ثورة العراق على الحكم الملكي، ويوم السابع عشر – الثلاثين منه، كان الإعلان الثوري عن إعادة الاعتبار لمبادئ ثورة 14 تموز الأصيلة، ضد الاستعمار وأحلافه، والرجعية وأهدافها، والصهيونية ومشاريعها، وفي فاتحة هذا الشهر عام 2013 نزلت الجماهير إلى ميادين مصر لتعيد الاعتبار للانتفاضة ذات الطابع الثوري التي انطلقت في 25/1/2011، ولتعود وتستحضر العناوين الوطنية والقومية لثورة 23 يوليو 52.
إذاً، كثيرة هي المحطات الهامة التي تؤرخ في هذا الشهر، لكن ما يهمنا ليس التوقف عند شرعة الاستقلال الأميركي، التي انحرفت عن أهدافها في ظل النظام الأميركي (الكوليونالي) الاستعماري، ولا عند شعارات الثورة الفرنسية، التي كانت شعارات للداخل، ولم تكن شعارات للخارج في ذروة الحقبة الاستعمارية الفرنسية، بل ما يهمنا هو التوقف عند محطات التغيير العربية وخاصة ما جرى في مصر والعراق.
فمصر تحولت بفعل ثورة 23 تموز (يوليو) من دولة متلقية ومنفذة لأوامر "لسراي" إلى قطبية عربية – دولية، كانت أبرز تجلياتها، تحول مصر إلى مركز عربي جاذب، والى ركن اساسي من منظومة دول عدم الإنجاز.
والعراق، تحول بفعل ثورة 14 تموز/1958، من قاعدة لحلف بغداد – "السنتو"، إلى قاعدة لمواجهة هذا الحلف الذي أرادت له أميركا أن يحقق غايتين استراتيجيتين في آن، تطويق الاتحاد السوفياتي بزنار سياسي، عسكري من على حدوده الجنوبية والأطباق على الوطن العربي، وربطه بمنظمة إقليمية تحت مسمى الشرق الأوسط والذي أعيد واستحضر تحت مسمى جديد هو الشرق الأوسط الجديد، لأن الشرق الأوسط القديم لم تكتب له الحياة.
هاتان الثورتان، 23 تموز في مصر و14 تموز في العراق كانتا الحدثان اللذان رسما ملامح مرحلة عربية جديدة عنوانها التحرر من الاستعمار والانعتاق من التبعية، والتوجه نحو عمل عربي تحرري وحدوي. وقد أدركت القوى المعادية للأمة العربية، المخاطر المترتبة على مصالحها في ظل تكامل معطيات هاتين الثورتين، وتفاعل تأثيراتهما على الوضع العربي، فكان أن وضعتا تحت المجهر لإسقاطهما كحد أقصى أو إجهاض أهدافهما كحد أدنى، وبالفعل استطاعت هذه القوى المعادية، أن تحقق ما رمت إليه، فكانت أن انحرفت ثورة 14 تموز عن مسارها الثوري، بفعل انحراف بعض القوى المشاركة فيها واعتبار أن معركتها هي مع الاتجاه القومي التحرري وليس مع الاستعمار والرجعية والصهيونية.
وتعرضت ثورة مصر للحصار والتضييق، ولما لم تستطع القوى المعادية إسقاط الثورة من الداخل، كان العدوان الصهيوني عام 1967، الذي أدى إلى فرض وقائع جديدة أثرت على موقع مصر أولاً وعلى مجرى الصراع العربي – الصهيوني ثانياً.
لقد تأخرت جماهير مصر 45 عاماً لتسقط النظام السياسي الذي استجاب للنتائج السياسية لعدوان 1967، فكانت انتفاضة 25/1/2011، التي أسقطت التركة السياسية التي أعقبت الحقبة الناصرية ولما بدا أن هناك من يعمل للالتفاف على هذه الانتفاضة الثورية وإفراغها من مضمونها الوطني التحرري، نزلت الجماهير إلى الميادين فاتحة تموز 2013، لتعيد صفاء انتفاضتها، ومعه تستعيد موقع مصر في بعده القومي والدولي.
إن جماهير مصر التي انتظرت نيف وأربعة عقود لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي استناداً إلى دور مصر وموقعها وتاريخها وانتمائها إلى أمتها، لم يكن حال العراق كذلك، إذا استطاعت قوى العراق الوطنية أن تضع حداً لقوى الانحراف بثورة 14 تموز عن أهدافها التحررية بعد خمس سنوات عندما قامت ثورة 14 رمضان 1963، والتي عادت وتصدت لقوى الردة على هذه الثورة بعد خمس سنوات أخرى. فكانت ثورة 17-30تموز 1968، الثورة المَعلم في الحياة العربية المعاصرة.
لقد قالوا عن هذه الحركة بأنها انقلاب، لأنه أدى إلى استبدال سلطة بأخرى، لكن المسألة ليس في التوصيف، بل بالسلوك والمسيرة وبالإنجازات المحققة.
صحيح ان الانقلاب يؤدي إلى استبدال سلطة بأخرى، لكن عندما يؤدي هذا الذي يسمونه انقلاباً إلى تغيير بنيوي في الحياة المجتمعية للشعب، فهل يكون هذا انقلاب، أم ثورة؟ اذا عدنا إلى التعريف العلمي للثورة، وهي أنها مجموع الفعل الذي يحدث تغييراً جذرياً في حياة المجتمع لحكمنا عندئذ على الفعل ماذا كان يقع تحت توصيف الثورة أو الانقلاب السلطوي.
وحتى لا نغرق كثيراً في التفاصيل، نستعرض بإيجاز أهم التحولات البنيوية التي حققتها الحركة التغييرية التي انطلقت في 17-30 تموز. فعلى الصعيد الاجتماعي – الاقتصادي – التنموي –حققت تحولاً نوعياً في تجذير ثقافة المواطنة، وشمول العراق من اقصاه إلى أقصاه بمسح خدماتي في الجوانب الاجتماعية والصحية، وإيصال الماء والكهرباء والطرقات إلى كل قربة وناحية، وإقامة شبكة من البنى التحتية غطت كل المناطق.وإنشاء المدارس والجامعات، وأن العراق الذي كان يعاني من نسبة أمية مرتفعة قبل ثورة 17-30 تموز، نال جائزة الأونيسكو عن حملته لمحو الأمية، إذ خلال عشر سنوات بلفت نسبة الأمية صفر.
والعراق الذي كان يصنف دولة متخلفة قبل الثورة، حقق قفزة نوعية في الحقل التنموي من خلال الثورة الزراعية الصناعية التي حققها ومعها أصبح يمثل موقعاً متقدماً في ترتيب الدول التي تحقق إنماء شاملاً متسارعاً في كل ركائز الاقتصاد الوطني. وان هذا ما كان ليتحقق لولا عاملان، الأول استراتيجية الثورة في مجال التحول البنيوي والثاني توفر الإمكانات التي وفرها وضع شعار بترول العرب موضع التنفيذ من خلال القرار التاريخي الذي نفذ في الأول من حزيران عام 1972.
لقد استطاع العراق أن يحقق ثورة نهضوية شاملة، وهذه لا تحققها أدوات انقلابية، بل تحققه أداة ثورية، لا ترى في السلطة الا وسيلة لتحقيق الأهداف الثورية التي هدفها الإنسان على مستوى الفرد، وعلى مستوى المكون الوطني.
هذا على المستوى الاجتماعي أما على المستوى الوطني، فقد أنجز النظام الوطني في العراق، ما لم تستطع كثير من النظم السياسية التي تضم كياناتها الوطنية تعددية قومية، فكان بيان 11 آذار الذي منح الأكراد حكماً ذاتياً في ظل راية الوحدة الوطنية، وعمل لإطار عمل جبهوي وطني، انسجاماً مع الرؤية الاستراتيجية، بأن كافة القوى الوطنية يجب أن تشارك في مسيرة التحول الثوري. لكن إذا لم يتسن لهذه التجربة أن تأخذ كامل مداها، فلأن الأطراف الأخرى لم تلتزم بمواثيق العمل المشترك، كما أدى التدخل الأجنبي الإقليمي والدولي إلى محاولة الالتفاف على بيان 11 آذار.
وعلى المستوى القومي، فإن العراق في ظل نظامه الوطني الذي أرست دعائمه ثورة 17-30 تموز، كان موجوداً حيث كانت الضرورة تقتضي ذلك، من المشاركة في حرب تشرين بقوة وفاعلية، إلى دعم واحتضان الثورة الفلسطينية، إلى قيادة الموقف العربي ضد كمب دافيد، إلى حماية البوابة الشرقية الاختراقات المعادية والتي كانت حرب الثماني سنوات، وما افرزته من نتائج سياسية، واحدة من انتصارات العرب الكبرى في التاريخ العربي.
هذه النتائج التي أفرزتها حرب الثماني سنوات، وما لها من انعكاسات على معطى البناء الداخلي، والدور القومي الذي سيضطلع بع العراق وخاصة على صعيد المواجهة مع العدو الصهيوني، هي التي استفزت القوى المعادية من الداخل العربي والمحيط الإقليمي ومراكز التقرير الدولي. فكانت أن بدأت التحضير لشن الحرب على العراق، لإسقاط هذه التجربة العربية النهضوية الشاملة، وإسقاط نتائج الحرب مع إيران. ومن هنا بدأت رحلة التحضير للحرب التي استعملت فيها الكويت كمخلب قط وانتهت بالعدوان الشامل والاحتلال وقبله الحصار الذي استهدف العراق، نظاماً سياسياً وكياناً وطنياً وبنية مجتمعية، وإنجازات تنموية متحققة.
ان الذي يؤكد ويقدم الحجة القاطعة بأن حركة التغيير التي حصلت في 17تموز هي ثورة بمواصفات كاملة، هي الاختبارات العملية التي وضعت فيها. فهي فضلاً عن المشروع النهضوي الشامل الذي حملت لواءه، فإنها استطاعت أن تخوض حرباً مع إيران وتحافظ على تماسكها البنيوي، دولاتياً ومجتمعياً، واستطاعت أن تفي بالتزاماتها القومية رغم الظروف الصعبة التي مرت بها وخاصة لجهة احتضانها الدافئ لثورة فلسطين وانتفاضتها، وأن ترفض الخضوع للابتزاز السياسي تحت ذريعة الضائقة المادية والمحاصرة السياسية، وأن تخوض في ظروف غير متكافئة حربين كبيرتين الأولى عام 1991 والثانية 2003، والأهم من كل ذلك، أنها استطاعت أن تقود مقاومة وطنية شعبية ضد الاحتلال الأميركي وكل المتعاونين والمتحالفين والمتقاطعين معه، وتطرد هذا الاحتلال بعدما كان يمن النفس ببقاء طويل في العراق.
هذه الحركة التغييرية، هي ثورة بكل معنى الكلمة، لأنها كان نتاج فعل نضالي متراكم اختبر في كل المجالات النضالية، وتوفرت لهذه الحركة قيادة ثورية ارتفعت في نضالها وتضحياتها إلى مستوى الشهادة. فحركة يستشهد قادتها مع مناضليها لأنهم كانوا دائماً في مقدمة المسيرة وفي طليعة المواجهة، ليست حركة هدفها استلام السلطة، بل حركة هدفها أحداث التغيير الشامل في المفاهيم والسلوك والأداء وكل منظومة القيم السياسية والاجتماعية.
وعندما تستطيع الأداة التي قادت حركة التغيير، ان نرسي دعائم النظام الوطني، وأن تقود المواجهات الشاملة مع أعداء التقدم والتحرر والوحدة، فهذا يعني، أنها أداة منبثقة من إرادة شعبية، وهذه الأداة لا يرتبط حضورها النضالي بالمواقع السلطوية. والدليل على ذلك، ان عندما أسقطت السلطة الوطنية بفعل العدوان، لم تسقط الأداة الثورية، لأنها وجودها بالأساس، لم يكن نتاج قرار سلطوي، بل كانت السلطة نتاج أدائها وفعلها النضالي.
إن العراق استطاع أن ينتصر على العدوان الإيراني، لأن كان يسترشد بمبادئ وأهداف ثورة 17 تموز، واستطاع أن يقاوم العدوان، ويدمر الاحتلال لأنه يسترشد أيضاً بمبادئ وأهداف ثورة تموز، وهو إذ يستمر في نضاله لإسقاط إفرازات الاحتلال وإسقاط الاحتلال الإيراني من الباطن ويعيد العراق إلى سابق عهده واحداً موحداً عربياً حراً مستقلاً، فلأن شعبه عاش على الأرضاع من حليب الثورة، التي تتجدد هذه الأيام من خلال الحراك الشعبي الذي يعبر عن التطلعات الوطنية لشعب العراق، والذي يحاكي حراكاً شعبياً عربياً، يبرز في أرقى تجلياته بما تشهده ميادين مصر العروبة.
من هنا فإن تموز شهر الرمزية في الأسطورة، هو شهر الرمزية في الثورات العربية التغييرية بدءاً من مصر وانتهاء بالعراق. وكما كانت مصر في حقبتها الناصرية والعراق في لحظة تفجرثورته عام 1958م عاملاً في إسقاط منظمة الشرق الأوسط القديم، فإن تلاقي ثورة مصر العروبة اليوم، التي تتجلى شخصيتها في حراك جماهيرها، وثورة 17 تموز العراق التي جددت شخصيتها في فعلها المقاوم سيسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد.
إن تلاقي هاتين الثورتين، هو الذي يحقق الامتلاء السياسي والعقائدي للأمة وهو الذي يمكن من إعادة تركيز الهرم العربي على قاعدته التي تستند إليها الأضلع العربية والعراق واحد منها. وهو الذي يضع حداً للأطباق الإقليمي والاختراق المعادي من الداخل والمداخل. ان الأمة بحاجة إلى إحياء مركزها القومي الجاذب وانطلاقته من مصر وإكماله بالعراق. تموز يبعث مجدداً في الأسطورة والامة تبعث مجدداً في الواقع.