ثلاثة مشاهد ميدانية، تنشد إليها الأنظار من خلال ما تعيشه الساحة السورية،
أولها يهز المشاعر الإنسانية من الأعماق، وثانيها يحدث اسى بالغاً في النفوس، وثالثها يذكر بمآسي النزوح في فلسطين ولبنان والعراق بعد الاحتلال أما الأول، فهو مستوى العنف الدموي الذي أرخى ظلاله على مجرى الأحداث في سوريا، عبر مشهدية المجازر التي ترتكب بحق البشر والحجر والشجر، والمقابر الجماعية التي تضم بين جنباتها جثث الأطفال والنساء والشيوخ و تبرز صورة مرعبة ورهيبة عن طبيعة سادية تتحكم بسلوك من يرتكب هذه الأعمال الجرمية ، بحيث لن تمحى بسهولة من الذاكرة الفردية والجماعية.
أما الثاني، فهو رؤية الدبابات العسكرية وآليات الجيش السوري تدمر وتحرق في دوارات حلب وساحات ادلب، ومفارق طرق ريف دمشق وأسواق حمص وحماه والرستن ودرعا ..
وأما الثالث، فهو النزوح الواسع للمواطنين السوريين، ومن كل المناطق الى دول المحيط الجغرافي، بعدما انعدمت الملاذات الآمنة في الداخل السوري.
والمؤسف في هذه المشاهد، ان المواطنين السوريين يقتلون بنيران سورية، من موقع الفعل النظامي ورد الفعل المعارض، وان الدبابات السورية تحرق بنيران سورية، ولا يغير من جوهر الأمر وجود مجموعات غير سورية، دخلت على خط النزاع بعد عسكرته وأن الذين يدفعون للنزوح درءاً للنفس هم سوريون ايضاً، وقعوا في مرمى النيران وضمن دائرة الحصار، وهم حيث يستقر بهم المقام عرضة لتلقي عبء النتائج دون أن تكون لهم علاقة بالسياقات السياسية لمسارات الأزمة.
إن هذا الذي تشهده الساحة السورية، ومستوى التأزم الذي وصلت إليه، ما كان ليحصل، لو سارت الأمور بداية بالاتجاه المعاكس لما جرى و استقرت عليه الأحوال حالياً. فلو كان النظام بادر عفواً لإجراء إصلاحات جدية وفعلية على المستويين السياسي والاقتصادي ولو كان اختار المعالجة السياسية لأزمة سياسية بنيوية بدل اللجوء إلى خيار الحل الأمني والعسكري ، ولو كان أقر بوجود معارضة سياسية وطنية غير تلك الملتحقة به، لكان فتح كوة كبيرة وواسعة في جدار الأزمة التي بلغت تعقيداتها مستوى لم يعد بالإمكان معالجتها بما كان ممكناً في بداياتها.
هذا من جانب النظام، أما من جانب حركة المعارضة المتعددة الطرف، فإنها لو استطاعت ان توحد صفوفها وتقدم نفسها طرفاً واحداً، على مستوى البنية التنظيمية، والبرنامج السياسي، ولو بقيت معتمدة خيار الحراك السلمي الديموقراطي، بدل الانجرار إلى العسكرة وان موقع رد الفعل على عنف ممارس ضدالحراك الشعبي، و لو لم تلف بعض أطراف هذه المعارضة شبهة وطنية من خلال الدعوة لتدخل خارجي، وصل حد الطلب بتدخل عسكري، لكانت توفرت أرضية داخلية، لآلية حل سياسي يجنب سوريا تجرع هذا الكأس المر، ولكان الجميع خرج من هذه الأزمة ان لم يكن رابحاً، فعلى الاقل بأدنى الخسائر الممكنة ،ولكانت سوريا، كمكون وطني بقيت بمنأى هذا التدخل السافر في شؤونها الداخلية من دول الإقليم سواء من ينتطح ليرخي بكل ثقله السياسي والإعلامي وللوجستي إلى جانب النظام، أو تلك التي توفر الدعم لقوى الاعتراض السياسي على اختلاف تلاوينها، وما ينطبق على دول الإقليم ينطبق على المواقع الدولية، وكل يريد له ان يكون موقعاً على طاولة الترتيبات السياسية، انطلاقاً من حساباته الخاصة، وأهدافه حيال منطقة يعتبرها شديدة الحيوية لأهدافه الاستراتيجية.
هذا الدفق من التدخل في الشأن السوري تماهياً مع النظام أو مع المعارضة، أضعف قدرة الأطراف الداخلية على تظهير حل سياسي ببعد وطني داخلي ، وهذا بالطبع ليس من مصلحة سوريا، التي دخلت أتون أزمة بمقدمات وأدوات داخلية، و يراد لها ان لا تخرج منها إلا بمقدمات وأدوات تدخل خارجي نظراً لانعدام التواصل السياسي الداخلي، وبقاء كل طرف متخندق في مواقفه السياسية دون تقديم تنازلات متقابلة، توظف في مصلحة حماية الكيان الوطني وبهدف انتاج حل سياسي، يتصدى لجذر المشكلة على قاعدة حماية المقومات الوطنية وإطلاق ديموقراطية الحياة السياسية.
وإذا كنا نعود ونؤكد، بأن تظهير حل سياسي للأزمة في سوريا، يتطلب، اعترافاً من كل الطرفين الداخليين، بأن أياً منهما لا يستطيع أن ينتج حلاً سياسياً بمفرده، فلأن الامر يحتاج إلى تقاطع عند نقطة وسط، مدخلها الاتفاق على مرحلة انتقالية، تشترك في تظهير معطياتها كل أطراف الأزمة في الداخل السوري، ولكي لا تستمر هذه الأزمة مفتوحة على الزمن وتجعل سوريا ساحة مكشوفة لكل أشكال التدخل.
وإذا كان البعض يظن، ان كثيرين يبكون على سوريا، فالبكاء المعبر عن صدق المشاعر الإنسانية، هو بكاء أبناء سوريا بالدرجة الأولى، وابناء الأمة العربية الذين ما شككوا يوماً بوطنية وعروبة الشعب في سوريا، وأما الآخرين، فبكاؤهم هو كذرف دموع التماسيح، التي يسيل لعابها على قضم سوريا قبل ذرفها لدمعة كاذبة، كما في ذلك التباكي على انتهاك حقوق الإنسان.
وإذا كان الحرص على أمن سوريا الوطني، وعدم جعلها موقعاً مكشوفاً أمام كل أشكال التدخل الخارجي هو هاجس دائم، لكل الذين يجدون في تهديد الأمن الوطني لأي مكون وطني عربي، تهديداً للأمن القومي العربي، فإن هذا لا يلغي أن يرتفع الصوت عالياً، لإدانة المجازر التي ترتكب بحق جماهير سوريا، سواء كانت من فعل إدارة النظام العسكرية أو بفعل مجموعات مسلحة تسللت إلى الداخل السوري لتنفيذ أعمالاً عنفية تبرر عنف النظام وتدفع الأمور نحو مزيد من التعقيد.
وانه بالقدر الذين يجب أن تدان هذه المجازر التي ترتكب بحق الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء ومدنيين عزل، فإننا ندعو الذين يغتبطون لرؤية دبابات محترقة في ساحات وشوارع سوريا، لأن يقلعوا عن مخامرة هذا الشعور، لأن هذه الدبابات وان استعملت في الموقع الخطأ وفي الاتجاه الخطأ، فإن السلوك الخاطئ لا يبرر رد فعل غريزي، لأن هذه الدبابات، اشتريت من أموال الشعب، ولكل مواطن حق له فيها، وهي استقدمت لتكون في الموقع الصح على خط الجبهة مع العدو الصهيوني الذي لا يخفي طبعاً حبوره وطربه وهو يرى الدبابات السورية تستعمل في الداخل السوري وتضرب بنيران سورية .
أما لجهة التعامل مع حالة النزوح، فإن الواجب القومي أولاً، والإنساني ثانياً، يوجبان ان تولى هذه القضية اهتماماً مركزياً، وبعيداً عن التسييس وتجاذب المواقف، وان تبقى بمنأى عن الضغط المادي والنفسي، وان لا يكون النازحون عرضة للضغط لتوجيه الرسائل السياسية عبر الملاحقات وأعمال الخطف والعنف الذين يتعرضون له. وعلى الدولة ان تتعامل معهم وفقاً لمعايير الأخوة القومية واحتراماً للمواثيق والاعراف والقوانين ذات الصلة بحقوق الإنسان وحيث أن لبنان هو من أول الدول التي صادقت على شرعة حقوق الإنسان وعلى اتفاقيات جنيف لعام 1949، والبرتوكولين الاضافيين لعام 1977.
إننا ونحن نستشعر طول الأزمة في سوريا، وعنوانها، استمرار الأعمال العسكرية والعنف الجوال، وانسداد منافذ الاتصال الداخلي، نرى أن أي جهد خارجي، عربي وإقليمي أو دولي، لن يكون منتجاً لحل سياسي بإبعاد وطنية، ان لم يكن أطراف الأزمة في سوريا من ركائزه، وأطراف الأزمة، ليس النظام وحسب، بل المعارضة التي يجب أن تخرج من حالة تشرذمها وتقدم نفسها فريقاً واحداً تخاطب الداخل كما الخارج بموقف موحد لرؤيتها في حل الأزمة السورية، الذي لا بد وأن يكون مشدوداً إلى مرتكزات وطنية، قوامها أربعة :
1- وحدة سورياً أرضاً وشعباً ومؤسسات،
2- نظام سياسي قائم على الفصل بين السلطات،
3- ديموقراطية في الحياة السياسية قائمة على أساس تداول السلطة،
4- استحضار موقف سوريا الأصيل في عروبته بإعطاء الأولوية لخيار العلاقات القومية على أي خيار آخر مهما بلغت إغراءاته.
نقول ذلك لأنه بعد سنة ونصف على تفجر الوضع سوريا، وبعد فشل مهمة المراقبين العرب، ومهمة كوفي أنان ها هو لأخضر الابراهيمي يكلف مجدداً كمبعوث دولي وعربي، للبحث في اليات حل لهذه الازمة وحيث نرى شرط نجاح مهمته، توفير التغطية الدولية بعيداً عن مماحكة المواقف بين المواقع الدولية الأساسية والأهم من كل ذلك، ان يتعامل أطراف الأزمة في الداخل السوري مع مهمته بإقرار واقتناع أن أي فرق لن يستطيع أن يفرض معطياته وأجندته على الآخر في ظل موازين القوى السائدة. وان سنة ونصف من الحراك والعنف يجب أن يكونا كافيتين لادراك لان الحل هو عبر تسوية تعيد إنتاج نظام جديد، ومدخله إشراك الجميع في أنجاح هذه التسوية ضمن معطى مرحلة انتقالية، تضع حداً لهذا العنف المتمادي، وحتى يتوقف هذا المشهد المرعب للمقابر الجماعية، وهذا المشهد المؤسف لزج الجيش السوري في صراع داخلي، وهذا المشهد الصارخ في رؤية هذا النزوح الشعبي من كل أطياف الشعب في سوريا.
إن على الجميع أن يدرك أن التغيير يجب أن يحصل ويجب أن يكون وطنياً بركائزه ديمقراطياً بمضامينه قومياً بأبعاده وكل من يدير ظهره لمعطى هذا الحل فمصيره كمصير من يلحس المبرد …