كم راود مقدمي برامج عرب ومقدمات (والمقدمات خصوصاً) حلم أن يصبحوا بقوة، وسطوة، وتأثير، وشهرة، وأيضاً ثروة (لم لا؟!) مقدمة البرامج الأميركية أوبرا وينفري… مستخدمين طريقة الطرح، والجرأة، والحصافة، وانتقاء المواضيع المهمة، والتعاطي العالي معها من قبل جميع الشرائح في المجتمع؟
لا شك أن هناك كثير من المقدمين (من الجنسين) الذين راودهم هذا الحلم، وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر لا يقتصر على العالم العربي، فلقد كانت هناك محاولات في أميركا نفسها، ومن مقدمات برامج، وسمراوات أيضاً، ولكن “أصالة الفكرة” هي الأساس لدى أوبرا، وتأتي العوامل الأخرى لترسّخها.
بعد أشهر من إعلان أوبرا عن آخر حلقات برنامجها الذي عاشت معه 25 عاماً، صادف أن عرضت محطة أجنبية حلقة معادة من برنامجها، ربما لأنها حصلت عليه بسعر منخفض، ولكنني عندما كنت أشاهد هذه الحلقة بالصدفة، لم أكن أشاهد البرنامج، ولا أوبرا، ولا الضيوف، بل كنت أرى البحرين… كأنما الفكرة والحاضرون والمشاركات تتحدث عنا تماماً، وإن كان بوضعية أخرى، ولكن الفكرة هي ذاتها التي ما قبلتْ أن تغادرنا للحظة.
كانت الحلقة تلك تتحدث عن التمييز العنصري الذي مرت به الولايات المتحدة، وكيف قبل بعض الناس التحدي وقاوموا، وكيف تمكنوا على قلتهم من قهر الظروف وتحمل جميع التبعات، وقدموا الكثير من أعصابهم وراحتهم بل وأرواحهم في مقابل الحصول على المساواة، أو أسهموا في المساواة بين الأميركيين من أصول إفريقية، والآخرين القادمين من أوروبا.
ليس هذا ما يشبه البحرين، بل ما ذكرني بالوضع هنا، وصوت مارتن لوثر كينغ يملأ الفضاء بصوته العميق، والكاريزما التي يمتلكها وهو يصدح “إنني أحلم…”؛ هو أن أوبرا قد أتت بالصور العالمية المشهورة والمنشورة في وسائل الإعلام، وأهمها صور وكالة أسوشييتد برس التي تصور الطلبة السود وهم يتعرضون للمضايقات من زملائهم البيض، سواء كانت المضايقات اللفظية أو الاعتداءات الجسدية، و”حوّقت” على وجوه المشتركين، من العرقين، وأتت بهم بعد أكثر من أربعين عاماً في الاستوديو.
كانت لحظة مؤثرة جداً، إنسانية جداً، وصادقة جداً، عندما يقول أحد المشاركين في هذا القبح البشري المفزع: “نعم، كنت مشاركاً… إنني أعترف بأنني أخطأت، وإنني أعتذر وأرجو أن يُقبل اعتذاري”.
أن يؤتى بامرأة إفريقية الأصل طاعنة في السن قد شهدت عبودية جدتها، وفي المقابل أحد أحفاد العائلة المستعبدة، وهو يعتذر عما سببه أجدداه من آلام لأهلها، وتقبل اعتذاره.
أن يتصافح الاثنان (ومن التصافح يأتي الصفح) أمام الجمهور، وربما يلتقيان لأول مرة، فإن هذا يعطينا جميعاً درساً مهماً في إدارة الخلاف أياً ما كان حجمه.
فلقد تبيّن من خلال النقاش في هذه الحلقة، أن من يراهم المجتمع بأسره اليوم أنهم مخطئين، وأنه من العيب والعار عليهم أن يقوموا بما قاموا به؛ فهم أنفسهم كانوا لا يرون بأساً بأن يكونوا عنصريين في ذلك الوقت، وأن لا يسمحوا لمن يسمونهم “الملونين” أن يجلسوا وإياهم على مقاعد الدراسة، ولا في المقاهي والبارات، ولا حتى في الحافلات… كانوا يؤمنون، من ضمن إيمان المجتمع حينذاك، أن عليهم أن يحافظوا على القيم الأوروبية، لكي لا تختلط بقيم أخرى مشهوة الجينات وغير محترمة. ولكن عندما تغيّر العالم تدريجياً، وأخذ ينبذ التمييز بكل تجلياته أصبح الجميع، بمن فيهم المشاركون ينظرون إلى خطأ وفداحة ما فعلوه.
إنه أمر يشبه بدهشتنا عندما ننبش فنجد صوراً قديمة لنا، نندهش كيف كنا نلبس، وكيف لم نكن نخجل من تسريحة شعرنا، وكيف كان الناس يتقبلون أنفسهم على تلك الهيئات غير المقبولة اليوم، فالزمن نفسه، الذي يحوّل نظراتنا من جانب إلى آخر، فنستنكر اليوم ما كان مقبولاً في الماضي، ونقبل اليوم ما كنا نراه أو يراه من قبلنا منكراً.
إننا اليوم في البحرين في حال انقسام لا يجبر كسرها ولا يعيد التحام طريفها القول شفاهة أن ليست هناك مشكلة، وأننا نعيش أسرة واحدة، وغيرها من العبارات التي لا تحرك في النفس ساكن، ولا تفعل أي فعل في متلقيها. لا نبحث اليوم عن من أصاب ومن أخطأ، إذ ليس هناك طرف منزه أو مبرّأ من الأخطاء والهفوات، وشيء من المحمولات التاريخية، بل والعقائدية، إن شئنا أن نذهب في الصراحة شوطاً آخر. بل إننا أمام أمل فقط ألا نسرف على بعضنا، وألا نقول أو نفعل اليوم ما نندم عليه في الغد، وذلك بترك بعض خطوط الرجوع من دون أن تتلوث حتى يمكن استخدامها. وأن لا نتزاحم على بئر الماء الوحيد لدينا لنتسابق على البصق فيها، ثم نشكو من أنها لا تصلح للشرب. فهناك خصومة، نعم، ولكن أن تتم المجاهرة بها إلى هذا الحد، يُغرى بها السفهاء ليديروها، أو أن تترك للأطفال يتخذوا منها مادة في وسائل التواصل الاجتماعي، ليتم إحراق قوارب العودة إلى ما كنا عليه يوماً ما وإن كان ليس هناك وضعاً مثاليا، ولكنه على أحسن الأحوال كان في الماضي أفضل نضجاً منه اليوم.
فعندما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفجر في الخصومة ووصفها من آيات المنافق “و‘إذا خاصم فجر”ّ، ذلك أن الإنسان السوي لا ينزل بنفسه إلى مهاوي الردى، وإلى الحقير الداني من المواضع حينما تنحدر لغة خطابه، ويتسقط الزلات والهفوات والأخطاء لخصومه، إذ أن الإنسان (وفي حالتنا: الطرفين) عندما يدخل في بحر الرمال المتحركة هذا، تثقله خطاياه وأقواله المنفلتة وأفعاله الشوهاء، ولا يعود بإمكانه الخروج من الوحل الذي دخله معميّاً بالانتقام وشهوة الانتصار.
كل هذا يعيدنا إلى مبدأ القول، إن الإيغال في هذا النوع من التحريض والتشويه والتسقيط والتدليس والكذب الصراح تحت دواعي أن غاية النصر تبرر خسّة الوسيلة، سوف يصعّب علينا ذات يوم أن نعتذر لأن خطايانا قد أثقلتنا، كما يفعل الاعتراف في الدين المسيحي، وبالتالي كلما كبرت خطايانا، زاد تعنتنا في الإصرار على عدم الاعتذار لأن البون أصبح شاسعاً، والتراكم من الصعب أن يُكشط من على سطح العلاقات الوطنية إلا وقد ترك أثراً في الجسم، كندبة من أثر مرض خطير.
على الرغم من كل هذا، فإن توقف كل هذا التشويه بالأمس كان أفضل لو تم منه اليوم، وأن يتوقف اليوم خيراً من أن يتوقف غداً، فلم يفت الوقت بعد لمن أراد أن يفعل الصواب، أو كما قال مارتن لوثر كنغ “الوقت مناسب دائماً لفعل ما هو مناسب”.
جريدة البلاد : الإثنين 17أكتوبر 2011 : العدد1098