د / يوسف مكي
ليس صحيحاً أن قرار إعادة النظر في اتفاقية سايكس – بيكو العام 1917، الذي قسم بموجبه المشرق العربي، قد تزامن مع وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، في مطلع هذا القرن.
فالحديث عن نهاية النظام الدولي الذي ساد في أعقاب الحرب الكونية الأولى، يعني فيما يعنيه، إعادة النظر في مجمل نتائج تلك الحرب، بما فيها اتفاقية سايكس – بيكو. وفيما يتعلق بوعد بلفور، فقد وجد صناع القرار الأممي الكبار، أن ليس من المصلحة، بقاءه في خانة الوعد، وأنه ينبغي أن يوضع قيد التنفيذ.
إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، جرى الحديث عن ترتيبات دولية، وعن إعادة النظر في الخرائط التي صيغت بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها لم تضع في حسبانها، مصالح المظلومين، من الطوائف الدينية، والأقليات القومية. وقيل في حينه إن اتفاق نتائج الحرب الكونية، قد حرم الكرد من تشكيل دولة قومية لهم، تجمع أكراد تركيا وإيران والعراق وسورية في أمة واحدة، ضمن الحدود التي يقيمون فيها.
لكن الاندلاع السريع للحرب الباردة، خلق حقائق جديدة، لم يكن بمقدور الأميركيين وحلفائهم تجاوزها، وكانت السبب في تعطيل مشروعهم الكوني في خلق سايكس – بيكو جديد على أسس طائفية ومذهبية وأقلوية قومية. لقد دشنت نتائج الحرب الباردة، مفاهيم جديدة بالواقع العربي، عندما أكدت عصبة الأمم المتحدة، حق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير. ولكن على ألا يتخطى ذلك الحق ما رسم من خرائط جيوسياسية، من قبل قوى الهيمنة. وهكذا جرى التبشير بويستفاليا عربية، تستند إلى مبادئ ويستفاليا القديمة، لكن نطاقها هي الخرائط التي رسمت من قبل البريطانيين والفرنسيين للمنطقة بأسرها. وعلى قاعدة صمود تلك الخرائط، خاض الشعب العربي معارك استقلاله.
لقد أدت نتائج الحرب الباردة، إلى تعطيل رغبة الغرب في تحقيق اندماج اقتصاد جميع بلدان المنطقة في الاقتصاد الغربي، كما حالت أيضاً دون خضوعها السياسي له. فكان أن انقسم الوطن العربي، كما أنظمته السياسية، إلى محاور، وفقاً للصراع المحتدم بين أقطاب تلك الحرب. وقد اقتضى امتلاك المتخاصمين الكبار لسلاح الرعب النووي، اعتماد الحروب الوكالة، بحيث يشن أحد الحلفاء حرباً بالنيابة على حلفاء الطرف الآخر. واقتضى ذلك أن يمنح الوكيل فائضاً من القوة، يكفي لأن يضطلع بالإدارة المباشرة للحرب بالوكالة.
وفي ظل مرحلة الاستقطاب الدولي، لم يكن من مصلحة الغرب أو الشرق، إضعاف حلفائهم بالمنطقة، لأن ذلك يعني من جهة إلغاء مبدأ الوكالة في الحرب، أو في القيادة المباشرة للتكتلات الإقليمية. وليس من شك، في أن ذلك سيمكن خصوم الغرب من اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري على حساب حلفائهم الاستراتيجيين بالمنطقة.
وهكذا تأجل الحديث عن سايكس – بيكو جديد. ولم تعد الإشارة إليه، ولكن بشكل عابر في منتصف السبعينات، وتحديداً بعد حرب أكتوبر عام 1973، حين أشير من قبل مراكز بحث أميركية إلى العراق، كموزاييك، ومنطقة رخوة غير قابلة للبقاء موحدة.
وحين جرى تدمير حائط برلين، وانتهت الحرب الباردة، جرى الحديث مجدداً عن نهاية سايكس – بيكو. واتخذ الأميركيون من منبر السلام في مدريد عام 1990، محطة الإعلان التصور الأميركي الجديد للعالم، ولمنطقتنا بشكل خاص. فقد أشار وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جيمس بيكر إلى احتضار اتفاق سايكس – بيكو، والتهيؤ لنظام دولي جديد، تنتفي فيه الحدود، وتضعف فيه سيادة الدول. تماهت تنظيرات العولمة التي بشر بها بيكر مع رؤية المحافظين الجدد، في الولايات المتحدة، في ضرورة إعادة تشكيل البناء الفلسفي للفكر السياسي الغربي، بحيث يكون منسجماً مع نزعة الهيمنة والسيطرة، التي اعتمدتها إدارة بوش، والقائمة على احتقار المؤسسات والهيئات الناظمة للعلاقات الدولية، كهيئة الأمم المتحدة، وعدم احترام قراراتها.
لقد ارتبطت فلسفة العولمة، وانتهاء سيادة الدول بمرحلة الأحادية القطبية، وهي مرحلة لم تتجاوز العقدين من الزمن. ومن حسن طالع الوطن العربي، أن الحركة الاحتجاجية التي شهدتها عدة دول عربية، ومحاولة الغرب ركوب موجتها، لتحقيق أجندته في الفوضى الخلاقة جاءت في نهاية مرحلة الهيمنة القطبية الواحدة. إن ذلك يشي أن مرحلة الانفلات السياسي والأمني بالوطن العربي لن تستمر طويلاً، وأن مرحلة جديدة ستنبلج من آلام الضحايا والمقهورين. مرحلة تعيد الاعتبار لمفهومي الاستقلال والسيادة، ولسوف تشهد المرحلة القادمة انتهاء اللعبة.
فهناك الآن دعوات دولية، لتجديد الإيمان باتفاقات ويستفاليا عام 1648، التي رسمت حدود الدول، وهناك بداية تنظير لنظام دولي جديد، يهدف إلى وضع مسائل الحرب والسلم في عهدة القانون الدولي والأمم المتحدة، والتحذير من أخطار الهيمنة على التوازن الدولي والاقتصاد، واعتماد الحلول السلمية، بديلاً عن الحلول العسكرية.
وفي هذا السياق، ينصح هنري كيسنجر، مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي، ووزير خارجيته فيما بعد في كتابه الموسوم Word Order «نظام عالمي»، بالاعتراف بحصول تبدل في ميزان القوى في العالم، وبالتخلي عن السلاح في حل النزاعات، لأن السلاح يلغي الحضارات والقيم، ويعبث بالتوازن.
تلك هي بعض مؤشرات النظام الدولي الجديد، وهي مؤشرات تفصح أن ليس بمقدور العالم، القبول باستمرار الانفلات الدولي، ولا مناص من استعادة مفاهيم الاستقلال والسيادة، وحق تقرير المصير، وإعادة الاعتبار لمفهومي الأمة والدولة، والعولمة في المبتدأ والخبر، منجز إنساني إيجابي، لا ينبغي أن يهدر، بل ينبغي أن يكون في خدمة البشرية جمعاء.