عبدالنبي العكري
لن يكون لأميركا استراتيجية كبرى (Grand strategy) حالياً، نظراً لسرعة التغييرات، ولكن سيكون لها استراتيجية قصيرة المدى، والأهم سياسات واقعية. هذا ما قاله مستشار وزير الدفاع الأميركي هاجل لمكافحة الإرهاب في أحد المؤتمرات المغلقة.
قدّم المستشار عرضاً بأهم الأخطار التي تواجهها أميركا وحلفاؤها خلال العقد المقبل، وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب خصوصاً الإسلامي، والذي له امتدادات في أميركا ذاتها؛ والصعود الاقتصادي الصيني لما لذلك من انعكاسات على دور الصين كقوة عالمية ذات أطماع إقليمية تهدّد حلفاء أميركا في شرق آسيا؛ وخطر الانهيار الاقتصادي لأوروبا، بما له من انعكاسات خطيرة على الاقتصاد العالمي خصوصاً الأميركي؛ وخطر اندلاع حرب جديدة في الشرق الأوسط بسبب البرنامج النووي الإيراني أو الصراع العربي الاسرائيلي.
وأوضح المستشار خيارات أميركا بشكل واضح، وهي أن أميركا لن تذهب لأية حرب إلا إذا كانت مكرهةً وكخيار أخير، وأنها لن تذهب للحرب بمفردها بل في إطار تفويض دولي من الأمم المتحدة ومشاركة حلفائها. وأن الولايات المتحدة لن تنشر قوات برية خارج أميركا، بل العكس ستنخفض هذه القوات خصوصاً في اليابان ومنطقة الخليج العربي. وكشف أن الإدارة الأميركية ملتزمةٌ بتخفيض ميزانية البنتاجون بنسبة 10% خلال السنوات الأربع من ولاية أوباما، ضمن خطة تخفيض الميزانية الفيدرالية، في ضوء العجز الكبير في الميزانية الفدرالية وميزان المدفوعات التجاري، وهذا يعني اقتطاع تريليونات الدولارات، ويعني تقليص النفقات، وهذا هو السبب الرئيسي لعدم التورط في حروب جديدة أو نشر قوات أو تطوير أسلحة جديدة.
وترجمةً لذلك، أكد أن أميركا تسعى إلى الحلول السياسية للخلافات الكبرى كما هو حال الملف النووي الايراني والملف الكوري والملف السوري وسباق التسلح، ولذلك فهي تسعى إلى توافق استراتيجي مع روسيا حول جميع هذه الملفات وغيرها. هذا الكلام كان قبل أربعة أشهر، وجاءت التطورات لتؤكّد هذه الاستراتيجية.
الرئيس أوباما وفي خطاب رئيسي مكرّس لاستراتيجية واشنطن في محاربة الإرهاب قال: «لا يمكننا أن نلجأ إلى القوة في كل مكان تتجذر فيه ايدلوجية متطرفة»، وأضاف «إنه في غياب استراتيجية تخفض التطرف من أساسه، فإن حرباً دائمة على الإرهاب باستخدام الطائرات بدون طيار وفرق الكوماندوس أو نشر قوات عسكرية عملية خاسرة سلفاً من شأنها تغيير وجه بلادنا». وتبعاً لذلك اتخذ أوباما ضوابط جديدة لاستخدام هذه الفترات وخطة لمحاكمة معتقلي غوانتانامو، تمهيداً لإغلاقه.
إذاً مكافحة الإرهاب هو هاجس أميركا الأول، لكن هناك تغييراً في الاستراتيجية من التصدي العسكري والمخابراتي فقط إلى المقاربة السياسية، أي خلق بيئة طاردة للإرهاب والتطرف، والذي وصل إلى أميركا ذاتها وتجلّى في العمل الارهابي في بوسطن، وذلك يقتضي سياسات جديدة لأميركا وحلفائها الغربيين وكذلك أصدقائها من الدول الحاضنة للإرهاب أو التي تمكّن منها الارهاب وفي مقدمتها الدول العربية.
من هنا عمدت أميركا إلى كبح اندفاعتها في سورية بعد أن تبيّن لها خطر سيطرة القوى الاسلامية المتطرقة والسلفية، وخصوصاً تنظيم النصرة وغيره. لذا وضعت الولايات المتحدة قوات النصرة على قائمة الارهاب، وأوقفت خطط مدّ المعارضة السورية المسلّحة بالسلاح حتى لا يقع بيد المتطرفين، وكبحت جماح حلفائها الاتراك والخليجيين والعرب. وانعطف الجهد الأميركي للتوصل مع روسيا إلى خطة من أجل حل سلمي في سورية، وهو الذي تمثل بمؤتمر جنيف 2. هذا نموذجٌ للسياسات الأميركية الجديدة.
بالنسبة إلى منطقة الخليج، فستظل منطقة حيوية للولايات المتحدة نفطاً وأسواقاً وممرات ووجوداً عسكرياً، وتحالفاً سياسياً إقليمياً، وفوائض مالية للاستثمار في الاقتصاد الأميركي، لكن الولايات المتحدة لن تنساق لدعوات الخليجيين لمواجهة عسكرية مع إيران بسبب ملفها النووي أو دورها في صراع الشرق الأوسط، فخيارها هو المفاوضات الدبلوماسية الدولية (5+1) لمجلس الأمن، ومنظمة الطاقة النووية الدولية. كذلك الأمر بالنسبة إلى سورية، فهي مستعدة لحفظ مصالح روسيا وإيران، ولم تعد متمسكةً بخيار إزاحة الأسد كشرطٍ مسبق، ولن تنساق وراء مطالب المعارضة السورية المتشددة.
الخلاصة… يجب على صانعي السياسة في دولنا العربية وخصوصاً الخليجية والقوى الموالية للأنظمة وخصوصاً الملكيين أكثر من الملك، أن يتفحصوا جيداً الاستراتيجية الأميركية الجديدة، ويفهموا أبعادها وانعكاساتها ومتطلباتها. ومن المفارقة أن تكون براجماتية أميركا تجاه إيران وسورية أكثر عقلانيةً وفي محصلتها أكثر مراعاةً لمصالح شعوبنا وبلداننا، من بعض الأنظمة والموالين الذين يدقون طبول الحرب، دون تقديرٍ للخسائر الهائلة التي تكبّدناها وخطورة تفتت بلداننا إلى كيانات طائفية ومناطقية. والعبرة لمن اعتبر.