في المستوى المتعلق بتصدير الأزمة من نظريات الحرب، تلجأ الدول إلى شن الحروب لحل مشاكلها الداخلية المستعصية، وذلك بتوجيه سياساتها نحو الخارج، بما يؤدي إلى خلق صراعات حادة بينها، وبين الدول التي أصبحت هدفا لعدائها. وفي هذا السياق من التحليل، تطرح الدول المعتدية، مجموعة من الذرائع تحاول، عن طريق أجهزة إعلامها ومختلف مؤسساتها، جعلها أسبابا لتبرير مشروعية عدوانها. ومن ضمن الذرائع التي تطرح عادة، المطالبة بحدود آمنة عصية على الاختراق، أو الحقوق التاريخية في أراضي البلد المستهدف، كما هو الحال بالنسبة للكيان الصهيوني في صراعه الطويل مع العرب. وتطرح استعادة الحقوق القومية، كذريعة أخرى لشن الحرب. وتلك كانت حجة هتلر لإعلان الحرب على الحلفاء، في بداية الحرب العالمية الثانية. ويجري التعلل أيضا بتأمين مواقع إستراتيجية للدفاع عن الممرات البحرية، وتلك هي أحد الذرائع التي ساقها شاه إيران لتبرير احتلاله لجزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، من أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة. وهناك أيضا ذريعة تأمين بعض الموارد الطبيعية والمواد الخام اللازمة لاستمرار صناعات البلد المعتدي، وتنسحب هذه على التدخلات البلجيكية العسكرية في الكونغو، وكانت هذه الذرائع تتكرر دائما أبان هيمنة الاستعمار الغربي على معظم بلدان العالم الثالث. وأخيرا وليس آخر، احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، والحيلولة دون امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.
إن السلام، من وجهة نظر القوى التي تشعل الحروب، لا يتحقق إلا إذا تمكنت هذه القوى من تحقيق أطماعها في أراضي غيرها من الدول. وهكذا فإن استمرار الأطماع التوسعية الناتجة عن توجيه الصراع الداخلي إلى الخارج لا تنتهي إلا إذا تمكن صناع القرار من إيجاد حلول لمشاكلهم الداخلية.
في الغالب، لا تشن الدول المعتدية حروبها، إلا إذا ضمنت بشكل مقبول نسبيا، كسبها للحرب. ولذلك نرى في معظم الأحيان أن الحروب تشن من قبل دول كبرى بحق دول أقل كفاءة وعدة وإمكانية منها. وقد لاحظنا في الحرب الباردة، التي استمرت منذ بداية الخمسينيات حتى نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم امتناع القوتين العظميتين، الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي، عن الالتحام العسكري المباشر مع بعضهما، بسبب وجود قوة الردع النووي، المرعب والمهدد بفناء البشرية في ترسانتيهما. ولذلك برزت تعويضا عن ذلك حروب الوكالة، حيث تواجه قوة من دول العالم الثالث، بالسلاح التقليدي، قوة كبرى، وتحظى بدعم عسكري هائل، من القوة الأخرى. كما هو الحال، مع حروب الهند الصينية، حين واجه الفيتناميون والكمبوديون وشعب لاوس، قوة أمريكا العسكرية، وحصلوا على دعم غير محدود من الإتحاد السوفييتي والصين.
ويمكن حسب هذا المستوى من التحليل، أيضا أن توجه دولة مجاورة، قوية نسبيا جيوشها نحو دولة صغيرة، لا تملك القوة العسكرية، التي تملكها الدولة المعتدية، من أجل أن تفرض حلا لمشاكلها، مع دولة أخرى لها مصالح خاصة في الدولة الصغيرة. وهنا تصبح حالة الحرب مع هذه الدولة ورقة ضغط رابحة في المفاوضات مع الدولة الأخرى. هذه الحالة، تكررت مرات ومرات في التاريخ. ولعل لبنان والحروب التي تعرض لها عدة مرات من قبل الكيان الصهيوني، في أعوام 1978، 1981، 2006، والتدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه الخاصة، تشكل حالة مثالية، لهذا النوع من التدخلات.
هذه المقدمة، التي أخذت حيزا كبيرا، من هذا الحديث، وجدناها مهمة ولازمة لفهم حالة الصراعات المستمرة بين إيران من جهة، ودول الجوار والقوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى. وهي صراعات ليس لها علاقة البتة، بما يروج له من قبل الأقلام المساندة للتوجهات الإيرانية، باعتبارها تصديرا للثورة حينا، وتعبيرا عن صراع أيديولوجي، وطهارة ثورية في حين آخر، أو دفاعا عن المستضعفين في مواجهة الشيطان الأكبر، كما يردد باستمرار في خطب الجمعة التي يلقيها أقطاب نظام الجمهورية الإسلامية.
نحاول هنا أن نقوم بقراءة تحليلية، قدر ما تتيحه المساحة، للمخارج التي اعتمدها النظام، كسبيل للخروج من عنق الزجاجة، وتأجيل الصراع بين القوى المتنافرة التي أطاحت بالشاه. ونجد أنفسنا في هذا الصدد مجبرين على رفض فكرة أن اختلاف الأيديولوجيات بين النظام وبين الدول المحيطة به هو سبب الأزمة. لم يكن للدوغمائية علاقة بالصراعات التي افتعلها نظام الجمهورية مع جواره، طيلة الثلاثين سنة المنصرمة، بل كان سلوكه براجماتيا بامتياز.
قراءة هذا الجانب، ستعيننا، دون شك على وعي طبيعة الصراع المحتدم الآن، في الجبهة الداخلية الإيرانية. فاكتشاف طبيعة الصراعات بين إيران وبين محيطها الإقليمي والدولي، هو وجه آخر، للصراعات التي تغلي الآن بالداخل. إن التيقن بأن أبعاد الصراع مع الخارج ليست له علاقة بمواقف عقائدية أو أيديولوجية، وهو ما سوف نحاول إثباته في قراءات قادمة، من شأنه أن يوصلنا إلى قراءة متكافئة أخرى، فيما يتعلق بالغليان الذي يجري الآن بالداخل، فهو الآخر، ليست له علاقة بمواقف عقائدية أو أيديولوجية، قدر علاقته بتنافر المصالح، واختلال العلاقة بين سقف المجتمع وسفوحه ووديانه، وأيضا باختلاف الرؤى حول طبيعة ما ينبغي تجاه علاقة إيران بمحيطها الداخلي والخارجي، وأيضا علاقاتها الدولية، والموقف من العزلة التي تتعرض لها من قبل "المجتمع الدولي"، على اختلاف مساربه وأهدافه.
قلنا إن القوى التي صنعت الجمهورية الإسلامية، هي مجموعات متناثرة، إثنية ودينية ومذهبية وسياسية، وحدت بينها تجاذبات اللحظة التاريخية، ومكنتها من تنفيذ عملية الحسم. وكان من المفترض بعد ذلك، أن يحدث لها، ما يتسق مع القانون الطبيعي في كل التغيرات الدراماتيكية العالمية التي تحدثها قوى متنافرة: "أن تأكل الثورة أبنائها"، لكن هذا القانون تم احتواءه، أو بشكل أدق تأجيل وقوعه. وكان نقل الصراع إلى الخارج هو البديل.
في محطات عديدة، ومتواصلة، ومنذ الأسابيع الأولى للثورة بدا أن لا مفر من تأجيل الصراع الداخلي، عن طريق تأجيجه مع الخارج. وكان احتلال السفارة الأمريكية في طهران هو المقدمة، في جملة من السيناريوهات التي عمدت لاحقا بدماء مئات الألوف من القتلى، في الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وأيضا في تأسيس أوكار للتخريب في عدد كبير من البلدان العربية والإسلامية، وتدخلات لاحقة في أفغانستان والعراق، تنسيقا من الاحتلال الأمريكي لبلدين شقيقين مجاورين، وتدخلات أخرى في لبنان واليمن، والخليج العربي، ومصر. وأخيرا وليس آخرا، ما أصبح يعرف بالملف النووي الإيراني، الذي أصبح الحديث عنه حاضرا باستمرار في السنوات الثلاث الأخيرة.
سلسلة من الأزمات والصراعات، والتهديدات، بدأت مع سقوط الشاه، لم تكن اعتباطا، ولم يكن لها إلا أن تستمر، إذا ما أريد للجبهة الداخلية أن تكون متماسكة. فقد كانت المعركة مع الخارج، والتصدي للعدو القومي، أو الديني، لا فرق، حزام الأمان اللاصق، الضامن لاستمرار النظام، والحيلولة دون تفككه. لكن ذلك يواجه الآن عنق الزجاجة، وهو عنق ضيق وسميك، وعصي على المعالجة… عنق تؤكد كل المؤشرات إن انسداده سيجعل إيران على موعد مع أعاصير وبراكين، قد لا تبقي ولا تذر.