عوني صادق
منذ أسابيع، تتواصل الاحتجاجات، وكذلك التفجيرات، في عدد من محافظات العراق حتى وصلت إلى بعض أحياء العاصمة . وفي الوقت الذي تتسع فيه الخلافات بين الأطراف المتنازعة، يقف العراقيون على حافة مرحلة جديدة قد تكون الأخطر منذ الغزوة الأمريكية . وفي السنوات العشر الماضية، وحتى “انسحاب” القوات الأمريكية في نهاية ،2011 كانت القيادة العسكرية والسفارة الأمريكيتان في بغداد هما اللتان تحلان ما يواجه الوضع من “أزمات” . أما بعد “الانسحاب”، فلم يعد هناك “حكم” مقبول قادر على فض نزاعات المتنازعين، خصوصاً أنه لم تكن منذ البدء طريقة إلى ذلك غير طريقة “الصفقات” وتوزيع الغنائم، وحيث كان “الرئيس الغائب” جلال الطالباني يلعب فيها دور الوسيط، والتي يفترض أنها كانت تستند إلى “الدستور” الذي وضعه برايمر والقوانين التي استنها على أساس “المحاصصات” الطائفية والعرقية . . .الخ، ولأن نوري المالكي قرر أن يتحول إلى “ديكتاتور صغير”، وأن يضع يده على الجزء الأكبر من الغنائم، ولأن الحكومات المتتالية لم تفعل شيئاً، بل لم تفكر في فعل شيء، يحسّن من ظروف حياة العراقيين، خرجت التظاهرات واتسعت، وتجاوزت من يعتبرون “قادتها” السياسيين والعشائريين أيضاً، رافعة في البداية شعار إسقاط حكومة المالكي، ثم وصلت إلى مطلب إسقاط النظام . ومما لا مكان للشك فيه، هو إن كانت هذه التظاهرات قد دلت على شيء، فهو أن صيغة “العراق الجديد”، وما يسمى “العملية السياسية” فيه، قد انهارتا تماماً .
لقد تعامل نوري المالكي مع التظاهرات بالطريقة نفسها التي تعامل بها أمثاله في أكثر من بلد من بلدان “الربيع العربي”، فبدأ بالاعتراف بأن “بعض مطالب المتظاهرين مشروعة”، لكن المشكلة كانت في “المندسين من الإرهابيين” و”البعثيين وفلول النظام السابق”، واصلاً إلى أن ما يشهده العراق ليس سوى “مؤامرة خارجية وفتنة تستهدف التجربة العراقية” . ولمواجهة “المؤامرة”، لجأ المالكي إلى عدد من السياسات والإجراءات، بادئاً باستخدام وسائل العنف وقمع المتظاهرين بعد اتهامهم بأنهم يحملون “أجندات خارجية”، ومنتهياً إلى محاولات التخدير وامتصاص النقمة المتصاعدة عبر تشكيل “اللجان” لدراسة “المطالب المشروعة”، ومتنصلاً من المسؤولية عن أسباب تدهور الأوضاع، رامياً ذلك على مجلس النواب .
ولا يختلف اليوم اثنان على أن العراق لا يحكمه العراقيون، وأن النفوذ الأقوى فيه هو للأمريكيين والإيرانيين، وفي مقابلة أجريت مع رئيس “القائمة العراقية”، إياد علاوي، قال: إن بقاء المالكي هو خيار توافقي أمريكي- إيراني . وكانت الدولتان عبرتا عن قلقهما مما يجري في العراق، وأظهرتا حرصاً على عدم زعزعة الوضع القائم، وإبقاء “القواعد” المعمول بها كما هي . وفي وقت مبكر، حثت الولايات المتحدة الأطراف السياسية العراقية على “الحوار” حيث نفت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية انحياز دولتها لأي من هذه الأطراف، قائلة: “لقد كان دورنا ببساطة السعي لتشجيع مختلف القوى على الحوار . . .” . وأضافت: إن ما تريده الولايات المتحدة رؤيته هو جلوس كافة الأطراف مع بعضها بعضاً لإيجاد حلول بموجب الدستور . واعتبر الجنرال لويد أوستن، المعين لتولي القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو آخر قائد للقوات الأمريكية في العراق، أمام لجنة في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن الوضع في العراق “مثير للقلق”، نافياً أن يكون العراق، في ضوء ما يشهده من توتر، يسير في الاتجاه الصحيح . من جانبه، حذر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من أن أي “اضطراب في العراق سيؤثر في الشرق الأوسط بأسره”، مهدداً بأنه “إذا اندلع حريق فسيحرق الجميع . وقد قلت صادقاً إن من يتدخلون سيتعرضون للأذى” .
وقبل اندلاع التظاهرات، كانت الأوضاع ملائمة للولايات المتحدة وكذلك لإيران، وتريدانها أن تستمر، وهما تريان أن “الحوار والتفاهم” هما السبيل لمواجهة المشكلات استناداً إلى “الدستور”، الذي تعود إليه أسباب كل المشكلات التي يعيشها العراق، وهو نفسه ما يريده المالكي وتحالفه الطائفي . وجاء في بيان صدر عن إبراهيم الجعفري، رئيس “التحالف الوطني العراقي” (الذي ينتمي إليه المالكي وحزبه): “إن التحالف الوطني العراقي ناقش الدعوات لإدامة الحوارات الوطنية، وضرورة استمرارها محكومة بالدستور والقوانين، والحفاظ على مكتسبات التجربة الديمقراطية، والتهيئة لجلسة قريبة للملتقى الوطني” .
واستمراراً لسياسة “الصفقات”، وبعد أن أحسّ بأن “الكتلة الكردية” تقف ضده، وكذلك التيار الصدري، جاءت دعوة المالكي لرئيس حكومة كردستان، نيجرفان البارزاني، لزيارة بغداد “لبحث الملفات العالقة بين الحكومتين، ومنها العقود النفطية، ورواتب (البشمركة)، والمناطق المتنازع عليها”، بمعنى آخر، لا يزال الدوران في الحلقة المفرغة مستمراً، ولا تزال “الصفقات والرشى” هي “الآلية” الوحيدة المعتمدة لحل “المشكلات”، بزعم التمسك بالدستور المعيب الذي أسس للمشكلات وفاقمها وجعل حلها متعذراً .
ويرى د . كمال مجيد أن العراق بعد عشر سنوات من الاحتلال الأمريكي، أصبح ليس دولة فاشلة فقط، بل إن الدولة لم تعد موجودة أصلا لأن أركانها لم تعد موجودة، فالشعب منقسم والأرض مقسمة، والحكومة لا تمثل الشعب ولا تسيطر على الأرض، والسيادة مفقودة .
لقد أصبح من الواضح لكل ذي عينين أن إنهاء الاحتلال، بوجهيه الأمريكي والإيراني، وإلغاء “الدستور” والقوانين التي سنها الاحتلال، ووضع دستور وطني ينهي التقاسم والتحاصص، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تشرف على انتخابات نزيهة وحقيقية، هي علامات على طريق يمكن أن تسهم في إعادة بناء الدولة الوطنية التي دمرها الاحتلال، وهي طريق الاستقرار أيضاً ..