إفتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر أيلول 2014
التحالف الدولي: حرب على الإرهاب أم إعادة تركيب المنطقة!؟
المقدمات التي سبقت تشكيل التحالف الدولي لضرب ما يسمى الإرهاب، ذكرت بالمقدمات التي سبقت تشكيله يوم شنت الحرب على العراق عام/2003
يومذاك، بررت أميركا حربها، بحجة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ونسجه علاقات مع القاعدة، واليوم تبرر حربها، بحجة ضرب الإرهاب الذي باتت تمثله "داعش" كاختصار "للدولة الإسلامية" في بلاد العراق والشام.
وكما كانت الحرب على العراق عام 2003، خارج التفويض الدولي، فإن الحرب الجديدة تشن خارج تفويض دولي. علماً، ان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2170 ذي الصلة بالموضوع الصادر في آب/2014 لم يجف حبره. لكن ما يميز طبيعة التدخل الأميركي الجديد عن سابقه، ان أميركا كقائدة استراتيجية لهذا التحالف لن ترسل قوات برية، بل ستكتفي بالقصف الجوي وتقديم المعلومات الاستخباراتية، وزيادة عدد المستشارين إلى بغداد وأربيل والذي بات بالآلاف!!!
هذه الاندفاعة السياسية – العسكرية الأميركية، جاءت بعد تطور ميداني في العراق أفرز وقائع جديدة، وتبين أنه يتمتع بقوة دفع ذاتية، لأن الإمساك بالأرض وبمدن رئيسية سيعمم مفاعيل هذا التطور على مستوى الساحة الوطنية، وبالتالي فإن العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال الأميركي واستمرت مع الاحتلال الإيراني من الباطن ستتتهاوى بعدما ثبت عقم الإدارة السياسية والأمنية وفساد رموزها وعجزها عن احتواء الوضع في ظل افتقارها للحد الأدنى من مقومات الولاء الوطني.
هذا التطور النوعي الذي شهده العراق بعد ثلاث عشرة سنة على الاحتلال، وثلاث على الانسحاب الأميركي، وما يقارب السنتين على الحراك الشعبي الذي تطور إلى ثورة شاملة تحت عناوين إسقاط العملية السياسية واستعادة السيادة الوطنية والحرية للعراقيين، هو الذي دفع الإدارة الأميركية، لأن تحدث نقلة نوعية في تعاطيها مع الشأن العراقي وانطلاقاً إلى المنطقة برمتها.
لقد كان أول قرار اتخذته إدارة الاحتلال هو حل الجيش العراقي، وهو المؤسسة الوطنية الارتكازية الأهم في البنيان الوطني، وثاني قرار اتخذته، كان "اجتثاث البعث"، وهو الحركة السياسية الأكثر قدرة وتأهيلاً للتعبير عن الهوية الوطنية العراقية بالنظر إلى طبيعة تركيبه البنيوي وفكره السياسي العابر للمناطق والطوائف والمذاهب.
وإن هذين القرارين لم يتخذا في لحظة انفعال سياسي، بل اتخذا في سياق خطة استراتيجية مرسومة، هدفت إحداث فراغ في بنية الدولة كما في البنية المجتمعية الوطنية.
وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، فإن البديل لحالة الامتلاء الوطني، كان حلول تشكيلات ميليشياوية مكان الجيش الوطني ترتبط بمرجعيات سياسية طائفية كما أن البديل لحالة الامتلاء السياسي الوطني التي كان يحققها البعث على قاعدة المواطنة، حلت محلها التشكيلات السياسية الطائفية التي تدار بعقل ميليشياوي على مستوى الأمن والسياسة والخدمات. وان هذه الإدارة التي بقيت ضمن دائرة الاحتواء وبكل تعبيراتها طيلة فترة الاحتلال الأميركي، تفاقمت ممارساتها التي لا تستقيم وضوابط القانون والانتظام العام، وازدادت حدة مذهبيتها في كل جوانب سلوكها الأمني والسياسي والاجتماعي مع حلول المهيمن الإيراني محل المحتل الأميركي.
إن أميركا، التي عملت لإعادة تركيب العراق سياسياً، انطلاقاً من النتائج التي ترتبت على حالة الفراغ الناجمة عن حل الجيش و"اجتثاث البعث"، وفرت أرضية دستورية لذلك، تقوم على إعادة تركيب السلطة على قاعدة المحاصصة الطائفية والمذهبية والأثنية، وإعادة تأسيس الكيان على قاعدة الأقاليم التي تراعي انتشار أكثرية التشكل المجتمعي على أساس مذهبي وأثني.
هذا النظام السياسي الجديد الذي أرادت أميركا إرساء دعائمه كاستحضار للنموذج اللبناني القائم على طائفية الحياة السياسية، تعرض للاهتزاز القوي بعدما تمكنت قوى المشروع الوطني من جعل إدارة العملية السياسية تواجه مأزقاً حاداً لعجزها عن قمع الحراك الشعبي، ومن ثم تهاوي مواقعها في ثلاث محافظات وبما انعكس إرباكاً على حراكها جعلها تقف على حافة الانهيار الشامل.
هذا الوقوف على حافة الانهيار للعملية السياسية التي أفرزها الاحتلال كان سيؤدي إلى إسقاط كل نتائج الاحتلال في بعدها العراقي وفي بعدها العربي والإقليمي. وأنه من خلال معطى الصراع الذي عاشته ساحة العراق في الأشهر الأخيرة تبين، أن التركيبة السياسية الحاكمة أعجز من احتواء الوضع وبالتالي فإن انهيارها، سيعني تحقيق الانتصار الشامل للمشروع الوطني الذي تأسست مرتكزاته عبر العمل المقاوم، وتوسعت شمولية حضوره وتأثيراته بعدما تحول إلى ثورة شاملة.
على أساس هذه التطورات التي شهدتها ساحة العراق مؤخراً، أعادت القوى المنخرطة في الصراع تقويم الوضع والنتائج المرتبة، وعليه قررت أميركا تفعيل تدخلها (لأنها بالأساس لم تكن خارج الحدث) على وقع مشهدية صاخبة، قامت بها مجاميع عسكرية وأمنية من "داعش"، وان عامل التسريع الذي اتخذ طابع العجلة، لم يكن التعرض للمسيحيين و"الايزيديين"، والشبك وتدمير المراكز والمرقد الدينية وعلى خطورة هذا السلوك الذي شوّه منظومة القيم الاجتماعية والإنسانية، بل كان الاندفاع باتجاه كردستان والحدود السورية – العراقية وإزالة السواتر وفتح البرين السوري والعراقي على بعضهما البعض، حيث شعرت أميركا ومن تقاطع معها وخاصة إيران بأن الأمور ستخرج عن السيطرة وعن مسار إعادة التركيب السياسي للمنطقة انطلاقاً من العراق وان مظهرية إعدام الصحفيين الأميركيين كانت بمثابة "البهار" الذي رش على طبخة الخلطة السياسية التي ظهرت تركيبتها في اجتماع جدة.
من هنا، فإن إعادة أميركا تحريك آلتها العسكرية متظللة بتحالف سياسي جديد، ليس في حقيقته وأبعاده استهدافاً لداعش، وعلى خطورة ما تمثل، بل لقطع الطريق على اندفاعة المشروع الوطني الذي تبلورت معالمه بعد دحر الاحتلال وبات يشكل تهديداً فعلياً للعملية السياسية التي أفرزها الاحتلال.
وعلى هذا الأساس، فإن الترويج الإعلامي والسياسي، للحملة السياسية – العسكرية بأنها لضرب الإرهاب هي ذر للرماد في العيون، لأن الهدف الكامن وراء هذه الاندفاعة الدولية – الإقليمية التي تقودها أميركا، هي لإعادة تعويم العملية السياسية، وإعادة رسم خارطة العراق السياسية وفق المنظور الأميركي للنظام الإقليمي الجديد، والتي لا تريد مشاركة أحد من الأطراف الوطنية الداخلية والأطراف الدولية في ترتيباته.
لقد تلقفت أميركا النتائج السلبية التي أفرزها سلوك داعش، لتنقض على النتائج الإيجابية التي أفرزها الفعل المقاوم للاحتلال عبر اصطفافه السياسي العريض. ولو كانت أميركا فعلاًُ تريد ضرب الإرهاب، لكانت انتهجت سبيلاً أخراً في تعاطيها مع الشأن العراقي أولاً، ولكانت استندت على الأقل إلى القرار 2170 الصادر عن مجلس الدولي ثانياً. وهذا ما أعاد التذكير بالموقف الأميركي من مؤتمر جنيف لتنفيذ القرارين (242 -338) فيومذاك عطلت انعقاد المؤتمر كي لا تشرك الاتحاد السوفياتي في توفير مظلة دولية للترتيبات السياسية والأمنية للصراع العربي – الصهيوني تحت عنوان حل أزمة الشرق الأوسط، واليوم تستفرد بقيادة الحراك الدولي لإعادة تركيب النظام الإقليمي انطلاقاً من العراق وبما يخدم مصالحها أولاً وأخيراً والقائمة على ركيزتي أمن "إسرائيل" وأمن النفط.
عل أساس هذا الإدراك للبعد الفعلي للتدخل الأميركي في العراق تحت عنوان ضرب الإرهاب، فإن الصراع سيفتح على آفاق جديدة، وان قوى المشروع الوطني في العراق باتت معينة بمواجهة تحد جديد أكثر تعقيداً من سابقه، نظراً لتداخل الخنادق في الأرضية الوطنية التي يقف عليها، والموقف الملتبس عند الكثيرين من حقيقة الباعث الأميركي للتحرك الأخير.
وعليه، فإن قوى هذا المشروع الوطني بكل أطيافه السياسية والشعبية ستكون من اليوم وصاعداً أمام مهمة وطنية جديدة، هي الحؤول دون تثبيت ركائز العملية السياسية التي غيّرت رموزها ولم يغير مضمونها، والحؤول دون تمكين أميركا وحلفائها من تثبيت ركائز نظام سياسي في العراق على قاعدة المحاصصة الطائفية والمناطقية والانطلاق منه إلى التعميم على كافة الأقطار العربية. وهذا يتطلب أن تكون هذه القوى واضحة في تحديد ضوابط برنامجها السياسي، المفتوح على أوسع اصطفاف سياسي وشعبي والمحصن منن الاختراقات المعادية التي تقدم نفسها تحت العناوين الدينية والمذهبية والمناطقية، ولها في البنود الستة التي طرحتها كمشروع للانقاذ الوطني السبيل الوحيد لخلاص العراق من الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية، وكل أشكال التدخل الخارجي المتظلل "بالعباءة" الأميركية المزركشة بتلاوين عراقية وعربية وإقليمية وان هذا التدخل الأميركي ومهما قيل عنه وفيه فإنه عدوان موصوف،لأنه استحضار واستدعاء لتدخل أجنبي في شؤون قطر عربي وبالتالي يجب التصدي له ومقاومته بنفس المستوى الذي تقاوم فيه نظم الإستبداد والقمع ودعاة التكفير والالغاء والتخريب في بنى المجتمع العربي أياًَ كانت مرجعياته السياسية من نظام "ولاية الفقيه" بكل تعبيراته إلى "القاعدة" بكل مشتقاتها ومسمياتها. وهذه مهمة كل الوطنيين والتقدمين العرب وكل دعاة الوحدة والديموقراطية والدولة المدنية لأن استئناف أميركا لتدخلها عبر هذا التحالف الدولي ليس حرباً على الإرهاب بل محاولة لإعادة تركيب المنطقة انطلاقاً من العراق.