جودُ الرجالِ من الأيدي وجودهمُ – من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
ستنهمرعلى قطاع غزة, كما إنهمرت سابقا على العراق الجديد, مليارات من الوعود والأحلام والخطط والمشاريع الساعية الى ما يُسمى بإعادة إعمارغزّة. ومع أن الكلام المعسول والممزوج بنوايا زائفة والأرقام الخيالية تبقى حبرا على ورق, بحكم تجربتنا مع الدول المانحة, الاّ أن إسرائيل التي قامت بعمليات القتل والتشريد والدمار والخراب في غزة, خرجت بريئة تماما من كلّ ما جرى. ولم تتحمّل أية مسؤولية ولم يطالبها أولئك المتباكون على غزة وشعبها, بأن تضع دورا واحدا من جيبها. لأن ضمائرهم, التي عادة ما تستيقظ متأخرة جدا ولأسباب تخصّهم بالأساس, لا ترى في ما قام به الكيان الصهيوني من عدوان وحشي غيردفاع مشروع عن النفس. بل إن الكثيرمن هؤلاء, خصوصا في أوروبا وأمريكا, يذهب الى حد إعتبارإسرائيل, رغم جرائمها وخروجها عن جميع القوانين, هي الطرف الذي يستحقّ المساعدة والدعم المادي.
ومن المؤكد أن أبناء غزّة, كما حصل مع أبناء العراق ومشاريع إعمار بلدهم الذي دمّره نفس المطالبين والساعين الى إعماره, سوف يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وينامون نوما هنيئا تدغدغ مشاعرهم الأحلام الوردية التي تعهّدت السيدة هيلاري كلينتون بتحقيقها لهم. بشرط واحد لا يقبل النقاش ولا الجدل ولا حتى التساؤل ولو همسا عن كيف وثمّ ماذا وهذا الشرط, وما أسهله ياعيني! هو أن يعترفوا باسرائيل وينبذوا العنف)أي المقاومة(لأن إسرائيل, كما يفكّر ساسة أمريكا والغرب عموما, دولة من القديسين والملائكة والحورالحسان.
فضلا عن ذلك, أن لقمة خبزكم أيها الغزاويون سوف يتكفّل بها الرئيس المنتهية ولايته محمود عباس, كرزاي فلسطين وحليف إسرائيل المخلص, الذي سيجعلها تمرعبرعشرات المكاتب والمؤسسات واللجان والجيوب لتنتفخ بها, الى حد الانفجار والتشظّي, حيتان أوسلو التي تعوم في بحيرة المقاطعة الراكدة. في رام الله. وكما حصل في العراق, وعلى مرأى ومسمع وعلى الهواء مباشرة, سوف تنتهي ملايين الدولارات وربما المليارات في جيب هذا المسؤول وذاك الحزبي, بين سرقة ونهب ورشاوي ومشاريع فانظازية على الورق ومواد إعمار وبناء وأدويةغيرصالحة, ومعدات وآلات قديمة تكلّف أضعاف أضعاف ثمنها الأصلي.
والمضحك حقا هو أن السيدة كلينتون قالت إن المصالحة بين الفصائل الفلسطينية ضرورية لاعمار ما تمّ تدميره في غزة – ولم تشرالى إسرائيل التي قامت بهذا التدمير – ومن أجل أن يستعيد الشعب الفلسطيني حياته الطبيعية. والمضحك هنا هو إن السيدة كلينتون ما زالت مقتنعة بان للفلسطيني في ظل الاحتلال الاسرائيلي حياة طبيعية كبقية البشر. فهي تنسى أو تتجاهل إن إسرائيل ومنذ ستين عاما جعلت من الفلسطيني سجينا أو مشرّدا في ما تبقى من أرضه المحتلة ومحاصرا من جميع الجهات. ولم تكن له, قبل العدوان على غزّة بعشرات السنين, حياة طبيعية يمكنه إستعادتها.
بل إن المجتمعين في شرم الشيخ, بؤرة التآمر والشرورعلى العرب, عمدوا الى وضع شروط تعجيزية على الشعب الفلسطيني لا يمكن القبول بها أو تحقيقها حتى لو حصلت معجزة لأن نواياهم خبيثة وأهدافهم عدوانية بيغون من وراءها إبقاء الشعب الفلسطيني رهينة لرغبات وأمزجة وخطط الدول الكبرى. فعدنما تصرّح السيدة كلينتون بانها سوف لا تتعامل مع حكومة وحدة وطنية تضمّ حركة حماس, رغم إن الحركة تتمتّع بشرعية ربما تفوق شرعية محمود عباس وفريق أوسلو المقيم في رام الله, فهذا يعني إن المساعي والجهود الهادفة الى تمزيق الشعب الفلسطيني وتعميق جراحه سوف تستمر. وهذه المرّة بمباركة ودعم الدول المانحة.
ولا ننسى هنا مسرحية إعادة إعمارالعراق الذي رصدت له أمريكا, بعد أن دمّرته تدميرا كاملا بشكل منظم ومقصود, مليارات الدولارات ومئات الخطط والمشاريع التي إنتهى بها المطاف الى جيوب أكثراللصوص إحترافا وجشعا وإجراما, إبتداءا من سيء الصيت والسمعة بول بريمر, الحاكم المدني الأول للعراق المحتل, وإنتهاءا باصغر ضابط في الجيش الأمريكي. وجميع هؤلاء اللصوص والسراق والفاسدين إستفادوا طبعا من خبرات وتجارب ومشاركة عملائهم من حكام عراق اليوم. الى درجة أن عراقهم الجديد إحتّل عالمياالمراتب الأولى في الفساد المالي والاداري. وبالرغم من الخيرات والثروات الهائلة التي يمتلكها العراق ما زال المواطن فيه يعاني من نقص شديد في أبسط الخدمات ومستلزمات الحياة الأخرى. وليس غريبا أن يُعادعرض مسرحية"إعادة الإعمار" في غزة ورام الله باخراج وسيناريو وجوقة كبيرة من الممثلين اللصوص, محترفين وهواة, على الشعب الفلسطيني الذي لا يملك ثمن تذكرة لمشاهدتها.