في عموده الأسبوعي بجريدة أخبار الخليج يوم الخميس الموافق 14 أكتوبر الماضي، تناول الأخ والصديق العزيز الدكتور علي فخرو موضوعا حساسا ذات طابع اشكالي، حمل عنوان "خطوات ما قبل تقريب المذاهب" عرض خلاله مجموعة من الملاحظات والتساؤلات التي يرى ضرورة مواجهتها من قبل من سماهم "أصحاب النيات الطيبة عندما يطرحون قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية".
ونحن هنا لن نخوض في تفاصيل تلك الإشكاليات الفقهية والفكرية والسياسية، التي تناولها الدكتور في سياق رؤيته وقراءته النقدية للواقع العربي الإسلامي، سواء ما تعلق منها بدعوته "لتنقية وتصحيح وإعادة تنظيم حقلي الأحاديث النبوية والاجتهادات الفقهية" أو حديثه عن "الإشكالية المتعلقة بطبيعة وتنظيم العلاقة بين ما جاء في القرآن الكريم، وما جاء في الأحاديث النبوية من جهة، وإملاءات وكتابات الفقهاء من جهة ثانية" بالإضافة إلى المحور الذي تتطرق فيه إلى "الأحاديث وتداخل الأحاديث مع الصراعات السياسية والدنيوية البحتة" وما تفرضه هذه الوقائع أو الإشكاليات من حاجة وضرورة إلى إعادة كتابة بعض فصول التاريخ العربي الإسلامي، وفق ما يطالب به الدكتور فخرو.
وكما قلت فاننا لن نخوض في تفاصيل هذه الموضوعات الشائكة فلا المساحة ولا المؤهلات تسمحان بذلك، فكما هو واضح فان كل إشكالية من تلك الإشكاليات، أو كل محور من تلك المحاور التي لامسها الدكتور علي في عمومياتها، تحتاج إلى دراسات ونقاشات مستفيضة من قبل ذوي الاختصاص تتصف بالشفافية والاستقلالية، كما أنها تحتاج إلى أجواء صحية وسليمة من الحرية الأكاديمية والفكرية وإلى ذهنية صافية غير مشوشة، أي إلى عقول خالية من أي غبش أو بلبلة، عقول قادرة على استيعاب المفاهيم الشرعية والعلمية من دون تسطيح أو تعقيد وقبل كل ذلك وبعده، تحتاج إلى بيئة سياسية واجتماعية هادئة ومتسامحة، ناهيك عن غيرها من الشروط والمستلزمات التي يعتقد الدكتور علي فخرو نفسه أهمية تحققها من أجل الوصول إلى النتائج المتوخاة من الخوض في غمار هذه "البحور المضطربة" وبالشكل الذي يخدم الأهداف النبيلة والنيات المخلصة التي تدفع الدكتور فخرو وغيره من المفكرين والمثقفين والمجتهدين المهمومين بقضايا الأمة إلى الخوض في مثل هذه الموضوعات الحساسة مع ما يكتنف هذه العمل من صعوبات وتحديات على مختلف المستويات الشخصية والمجتمعية، وعلى المستويات الثقافية والفكرية والسياسية.
نحن نرى أن الأجواء التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية في الظروف الراهنة، وما يرافقها من طغيان بعض نماذج من التشوهات والانحرافات التي طبعت بعض المحطات في مسيرة تاريخ الدين الإسلامي، وليست "الدويلات الطائفية" التي تحدثت عنها كتب التاريخ، والتي نخرت في أسس الإمبراطورية العربية الإسلامية وأسقطتها، سوى أحد تلك النماذج الموجعة في هذا التاريخ، ومعاناة مجتمعاتنا ويلات التعصب والظلم والاستغلال والتبعية، بالإضافة إلى ابتلاء هذه الأمة ببعض العينات من الجهلاء والغوغائيين المسئولين عما يلحق بحاضر الأمة من أضرار بالغة، "وكذلك كثرة المتنطعين والطفيليين المحسوبين على صفوف الأمة في الداخل، وتزايد هجمات ومؤامرات الأعداء في الخارج".
إن كل هذه الأجواء لا نظن بأنها تلائم أو يمكن أن تساعد على الخوض في هذه المسائل والقضايا الكبرى التي هي حقا تشغل العقل العربي والتي هي مسئولة عن أسره وتعطيل انطلاقته إيضا.
وبالرغم من عدم وضوح فكرة "الخطوة التاريخية الكبرى" التي طالب بها الدكتور "من أجل إخراج العباد من التيه والدوران العبثي اللذين طال عليهما الأمد" وعدم تحديده للجهة أو الجهات المعنية باتخاذ مثل هذه الخطوة، وغياب الإشارة إلى الشروط الواجب توافرها للإقدام على هذه الخطوة..
.. نقول: بالرغم من كل ذلك، فإنه وانطلاقاً من إيماننا العميق بصدق نيات وأهداف الدكتور فخرو، ومن خلال معرفتنا الأكيدة بحجم القلق والخوف اللذين ينتابانه على مصير هذه الأمة، فليسمح لنا الدكتور بمحاورته في هذا الموضوع، وأن نبدأ معه من حيث ما انتهى إليه، أي من تلك النقطة المهمة التي جاءت في سياق حديثه، وأشار فيها "إلى تزايد تحديات وهجمات الأعداء والقوى الخارجية" ذات المصلحة المباشرة في شرذمة الحال العربي الإسلامي – المنهك أصلا – بهدف تقويض ما تبقى من إمكانات التوحد العربي الإسلامي وزعزعة ما تبقى من تماسك في الجسد الوطني على مستوى الأقطار العربية، حيث نلحظ اليوم العمل الدؤوب والمتواصل لتقطيع أوصال هذا الجسد جغرافيا وبشريا على يد هذه القوى المعادية.
إن هذه الأخطار وغيرها مما يلوح في السماء العربية والإسلامية من سحب وغيوم شؤم تنذر بكوارث أخرى، بفعل مخطط التجزئة والتفتيت الذي ينشط هذه الأيام بشكل مسعور في العديد من الأقطار العربية والإسلامية، الأمر الذي يجب أن يجعلنا أكثر حذراً وأكثر يقظةً، ونحن نفتح بعض النوافذ لتسليط الضوء على بعض الزوايا المظلمة في تاريخنا وتراثنا وفي واقعنا الراهن التي يمكن أن تستغل من قبل "شياطين العتمة" و"عفاريت الفتنة" وغيرهم من "حراس التخلف" الذين يشكلون الاحتياطي المضموم للقوى الخارجية المعادية والذين هم قادرون على افساد أو تخريب أي خطوة ايجابية لصالح نهوض وتقدم الأمة.
ان هذه المنطقة ومنذ ما يزيد على 1400 سنة قابعة على بركان من الصراعات السياسية والمذهبية، التي كانت مع مرور الوقت تتوالد وتلت معها الكثير من "الفتن" والأفكار السوداء، وعوضاً عن أن تتراجع أو تخبو مع الزمن فقد وجدناها تتكاثر وتخترق كل الحقب التاريخية والأزمنة المتطاولة لتستقر في القلوب والعقول ، الأمر الذي يعني انه بات لدينا ثقافة مذهبية متجذرة في البيئة وفي التكوين النفسي والعقلي، وأن هذه الثقافة صارت تتعامل مع أي "حوار" أو "نقاش" حول "التجديد" ومع أي "نقد" أو "تشخيص" موضوعي "للمورث المعرفي المتغير" أو للفكر الديني البشري المتحول، على أنه نقد للثوابت المقدسة، مما يعني ان مجتمعاتنا غير قادرة على التعاطي مع أي نقد يمكن أن يحرك جذور المعرفة الممتدة في أعماق العقل الجمعي المورث، من هنا فان كل الجهود المخلصة التي يمكن أن تبذل في هذا المجال في الظروف الراهنة رغم أهميتها – نظراً لما تحمله من أهداف اجتماعية ومعرفية تنويرية- فانها في الواقع جهود ضائعة غير قادرة على تحقيق أهدافها لأنها جهود فردية وغير مؤسسية، فضلاً عن عجزها عن تأسيس أنساق معرفية أو فكرية مهمة في الظرف الراهن.
ان هذا الواقع المؤلم والمأزوم هو الذي يفرض علينا الدعوة إلى أهمية الاستثمار في جوهر الدين الإسلامي ومبادئه السامية، استثمارا ايجابيا، بعيدا عن كل ما يمكن أن يفاقم أسباب الخلاف أو يؤجج عوامل التشظي والتشرذم في صفوف الأمة، خاصة أننا نعيش مرحلة استثنائية بالغة الخطورة، ونجتاز ظروفا على درجة عالية من التعقيد، حيث تتداخل الألوان وتتشابك الصفوف، وتضيع الحدود والفواصل بين الأعداء والأصدقاء، وحيث نرى توحدا واندماجا يبعثان على الدهشة والريبة بين إرادة وتوجهات القوى الخارجية المعادية، وجهالة وتخلف بعض الحمقى من أفراد وقوى تحسب على الصف الإسلامي لإفشال وإجهاض أي فرصة يمكن أن تسهم في نهوض الأمة وتقدمها.
لذلك نحن نرى من وجهة نظرنا – ومع تقديرنا لوجهة نظر الدكتور علي فخرو – أنه لا جدوى في الظروف المصيرية الراهنة من الدخول في "معمعة" هذه الإشكاليات ذات المسار المؤلم في مسيرة تاريخ أمتنا وحاضرها، وهو مسار كما نعرف قد ألحق – ولايزال – الكثير من الأضرار بحال الأمة، وهو ما يوجب علينا ترحيل كل الحوارات والمناقشات التي تتعلق بالإشكاليات المذهبية والسياسية التاريخية، إلى مرحلة لاحقة، تكون عقلية الأمة قد تعافت بعض الشيء من الأمراض المذهبية ومن الأمراض الطائفية التي تئن تحت وطأتها، وحتى تنضج الظروف التي يمكن أن تسمح بتناول مثل هذه الموضوعات والقضايا الحساسة.
فالتحديات المصيرية المفروضة على أمتنا اليوم وسبل مواجهتها، على امتداد الوطن العربي وشبح الحروب الأهلية الذي بات يلوح في الأفق في أكثر من مجتمع عربي والمحاولات المحمومة لنشر بذور الفتنة والتفرقة وتفكيك اللحمة الوطنية، هي التي يجب أن تحتل الأسبقية في سلم أولوياتنا المعاصرة، السياسية منها والفكرية، من أجل تفويت الفرصة على المتربصين بالأمة من أصحاب النيات والأهداف الشريرة سواء كانوا من الخارج أو من الداخل.
وفي تقديرنا أن الجهود يجب أن تنصب حاليا في هذا الاتجاه ومطلوب منا جميعاً (مفكرين ومؤسسات شعبية وأحزابا وقوى سياسية) الاهتمام إعلاميا وثقافيا بالقيم السامية للدين الإسلامي، التي هي في جوهرها توحيدية وتحمل كل معاني الحب والوحدة والتسامح، كونها تمثل السبيل الوحيد لإطفاء نار الطائفية والمذهبية التي تستعر هذه الأيام بشكل جنوني، والتي تزيدها اشتعالاً ممارسات القوى السياسية المذهبية وبعض الفضائيات "المبتذلة" وغيرها من وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة ذات التوجهات المنحرفة والمعادية لضمير ووجدان الأمة.
وعندما نطمئن أن عقل الأمة قد تعافى، وأن جروحها النازفة بدأت تبرد، وأنه جرى تفكيك القنابل الطائفية التي يهدد انفجارها كل ما تبقى من وحدة مجتمعاتنا، عندذلك لا خوف على هذه الأمة من تناول أو بحث كل القضايا، ذات الإشكاليات المذهبية والفقهية والسياسية، من أجل رقي هذه الأمة، والمحافظة على ما تبقى لديها من تطلعات حالمة باتجاه لملمة الشمل والاقتراب من حالة التوحد وحماية الهوية، وهي ذات التطلعات والأهداف الوطنية والقومية التي تشغل الدكتور علي فخرو وتجعله يصر على الخوض في الموضوعات ذات الطابع الإشكالي، والبحث عن حلول لعلاجها، في ظل واقع عربي وإسلامي مأزوم الفكر ومشوش الرؤية.