قاسم حسين
حين تعلو الأصوات المتصايحة لإسكات الصوت الآخر، المختلف، المعارض، في أي بلد، فاعلم بأن هذا البلد يعود القهقرى للعيش في القرون الوسطى.
وإذا أرادت أمةٌ أن تنهض من كبواتها وعثراتها، ونكساتها وهزائمها، فعليها أن تؤمن أولاً بحق الشعب في التعبير عن رأيه في مختلف شئون الحياة، بدءًا من أداء حكومتها ووزرائها، وانتهاءً بأداء الجمعيات والأحزاب والنواب.
حين تفتح الصحف فلا تقرأ إلا تحريضاً على قطاع واسع من أبناء الشعب، وإصراراً على تمزيق الصف الوطني، ودعوات مفتوحة لبثّ الكراهية علناً، فاعلم بأن هذا البلد يسير برجليه إلى مشروع انتحار جماعي.
لماذا هذه النزعة الموغلة في التوحش، والرغبة السادية الشديدة في إقصاء الآخر، والتحريض على المعارضين، وكأنهم مخلوقاتٌ غريبةٌ قادمةٌ من كوكب آخر لغزو البلد وليسوا مواطنين أصليين؟ ومتى نصل إلى درجةٍ من النضج والرشد السياسي، بحيث نقر ونسلّم بوجود أشخاص يحملون فكراً مختلفاً عنا، ولهم مواقف سياسية مخالفة لتوجهاتنا، ولهم قناعات تختلف عمّا نؤمن به؟
الله لم يخلقنا نسخاً كربونية متطابقة، وكما خلق أصابعنا مختلفة الأطوال، وخلق لكلٍّ منا بصمةً خاصة، فعلينا بالأولى أن نسلّم للآخرين باختلافهم عنا في مواقفهم وآرائهم السياسية، ونقبلهم كأشخاص لهم وجودهم وكيانهم وعقولهم، وكمواطنين يجب أن لا تُنتقص حقوقهم، في ظل دولة عادلة لا تفرّق بين المواطنين ولا تستخدم التمييز والإقصاء وإنزال العقوبات المشدّدة على معارضيها، حتى وصلت إلى إسقاط الجنسية.
إن حوادث القتل والتفجير التي شهدتها السعودية والكويت مؤخراً، وتشهدها الآن مصر وليبيا وتونس، ومن قبلهم سورية والعراق ولبنان… كلها بدأت من هذه الخطيئة القاتلة: عدم الاعتراف بوجود «آخرين» مختلفين عنا، في ظلّ عملية تحشيد وتحريض مركّز وبثٍّ للكراهية، بحيث تتدحرج الكرة حتى تتحوّل إلى قناعةٍ بعدم حقّهم في الحياة. فالتفجير يبدأ في النفوس، وينتهي في المساجد والكنائس والأسواق.
ماذا يعني أن يخصّص خطيبٌ كاملَ خطابه يوم الجمعة، للتحريض على طائفةٍ معينة، وبدل أن يكرّسه للحديث عن «محرّكات الإيمان» والاقتداء بالرسول (ص) في مثل هذه الليالي المباركات، حيث «(يتفرق) فيها للعبادة، معتكفا في مسجده؛ منقطعا عن الدنيا، مقبلا على ربه، مجتهدا في طاعته»، كما يشهد على نفسه… تراه يخصّص كل خطابه للتحريض على الآخرين واستعداء الدولة عليهم، ويرميهم بالتدليس والتلبيس والتآمر والتحريف، والنفاق والشرك… وغيرها من مفردات هذا القاموس المليء بالشتائم والرعونة و«التحريش» والكراهية التي تمتلئ بها النفوس المريضة.
ليس هناك شعبٌ واحدٌ في الدنيا، يُجمع على رأي واحد في قضايا السياسة والاقتصاد والمجتمع والفكر والثقافة، وحتى في الرياضة والفن، فلماذا تريدون إجبار الناس على تبنّي آرائكم الأحادية، والتسليم بصحة مواقفكم السياسية، ومن يخالفكم تعتبرونه من أصحاب الجحيم؟
إن محاولة تكميم أفواه الناس بهذه الطريقة القمعية الفظة والبائسة، لم تعد ممكنةً في هذا الزمان، فالشعوب تتطلع اليوم إلى حياة حرة كريمة، غير منقوصة الكرامة ولا الحقوق. هذه هي حقيقة الحقائق في هذا العصر، أما محاولة العودة إلى أغلال الماضي، والتحكّم في عقول البشر وجرجرتها كالأنعام، فهي محاولةٌ تقع خارج الزمان.
انزلوا من أبراجكم، واخرجوا من شرنقاتكم الطائفية، وخففوا من غروركم وغلوائكم، ففي هذا المقطع المضطرب من التاريخ، كل شيء بات موضع مساءلة ومناقشة، من السياسة إلى مسلمات الفكر والدين، خصوصاً بعد انتشار هذه الموجة التكفيرية التي زلزلت قناعات الشعوب وباتت تهدّد البلدان.
وجود هذا الفكر الإقصائي المتغطرس… هو أحدى آفات هذا الزمان.