في مؤتمر أقامه مركز دراسات الشرق الأوسط في الأردن حول مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبل تلك المشاريع، كان لافتا كثرة مشاريع التغيير عند الآخرين التي يراد بها الهيمنة على مسارات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية عبر الوطن العربي كله، ولا أعتقد أن هناك منطقة في المعمورة سمحت بعجز بأن يعامل ساكنوها كبشر قاصرين، وبالتالي قبلت بتكالب مشاريع التغيير الأجنبية عليها، مثلما فعلت منطقة العرب. وبالطبع فإن على رأس قائمة تلك المشاريع يتربع المشروعان الخطران: المشروع الامبريالي الأمريكي والمشروع الاستيطاني العنصري الصهيوني، فهذان المشروعان يعملان بلا تعب أو ملل على تجزئة الأمة وإثارة الصراعات الأهلية والدينية والمذهبية فيها والاستيلاء على ثرواتها والتحكم في قرارها السياسي ومنعها من الخروج من مرحلة التخلف العلمي والتكنولوجي، هما اللذان ينخران جسم الأمة ويسممان روحها ويهددان مستقبلها، وهما يكوّنان التحدي الأكبر في يومنا هذا ويستدعيان المواجهة السريعة الفاعلة.
في المؤتمر نفسه نوقش المشروعان الذاتيان: المشروع العربي القومي والمشروع العربي الإسلامي على أساس أنهما الوحيدان القادران بندية على مواجهة مشاريع الغير وخصوصا الأمريكي والصهيوني. هنا وفي لمح البصر يطرح السؤال التالي نفسه: هل يجوز – والأمة في محنة التكالب عليها من امبرياليي الخارج ومستبدي الداخل – أن نواجه الأمر بمشروعين أو أكثر بدلا من التقاء الجميع في مشروع تغييري واحد يتصدى لمشاريع الخارج ولأوضاع البؤس في الداخل؟ والجواب أنه لا يجوز البتة أولا: لأن الوضع العربي لا يحتمل أي فرقة أو انقسام، وثانيا: لأن نقاط الاتفاق والالتقاء بين المشروعين الرئيسيين للتيارين الكبيرين أكثر بكثير من نقاط الخلاف، وخصوصا أن هناك حاجة ماسة إلى إطفاء الحرائق المشتعلة في كل مكان وإلى مواجهة حالات الطوارئ السياسية والأمنية الكبرى التي نعيشها.
هل ما نقوله صعب؟ أبدا فمسيرة محاولة التقاء التيارين الإسلامي والقومي الفكري والنضالي بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر ووصلت إلى أوج تألقها العملي عام 1994 عندما عقد المؤتمر القومي الإسلامي الأول في بيروت بحضور جمع ممثل لمؤسسات وأفراد الساحتين. وتظهر مراجعة ما دار من نقاشات مستفيضة في ذلك المؤتمر أن الغالبية كانت تريد من التيارين الإسلامي والقومي ترحيل الاختلافات والتباينات الأيديولوجية فيما بينهما والتركيز فيما يجمعهما. وقد رأى المجتمعون آنذاك أن المشترك كان يتمثل في النضال بكل أشكال المقاومة من أجل الاستقلال الوطني والقومي والإسلامي من جهة وفي العمل على انتقال مجتمعاتنا من حكم الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يسمح في حده الأدنى بحريات التعبير وتكوين الأحزاب السياسية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني واستقلالية السلطات الثلاث وتبادل سلطة الحكم.
منذ ذلك الوقت اقتصر التعاون على اجتماعات المؤتمر القومي – الإسلامي السنوي وتنسيق مواقف التيارين بالنسبة إلى المستجدات في الساحة السياسية العربية ودعم المقاومات العربية، لكن وفي الفترة الزمنية نفسها زادت التدخلات الخارجية وعاد الاستعمار إلى كل الأرض العربية وقويت شوكة الوجود الاستيطاني في فلسطين المحتلة وبدأت حملة امبريالية ثقافية لتدمير الهويتين العربية والإسلامية، كما بقيت أوضاع الداخل من استبداد وقمع وفساد وتخلف اقتصادي – اجتماعي – على حالها إن لم تزد سوءا.
أمام هذا الوضع الخطر ألم تحن الساعة للتيارين القومي والإسلامي أن يطورا ما اتفقا عليه منذ خمسة عشر عاما ليصبح لهما مشروع نهضوي متكامل مشترك يشمل المنطلقات الفكرية والنظرية المشتركة والأهداف النهضوية المشتركة؟
هل توجد عند التيار الإسلامي مشكلة تبني كل أهداف المشروع النهضوي العربي المتمثلة في الوحدة العربية والاستقلال الوطني والقومي والديمقراطية والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري؟ هل توجد لدى التيار القومي مشكلة تبني المنطلقات الروحية والأخلاقية الإسلامية؟ حتى بعض الخلافات في بعض الأمور التفصيلية ألا يمكن إيجاد مخارج معقولة لها من قبل المتزنين القوميين والإسلاميين؟
هذه الأسئلة وغيرها تستدعي جهدا فكريا وسياسيا وتنظيميا جديدا وجادا ومستمرا ليكون أمام الأمة العربية مشروع تغييري واحد أمام مشاريع التغيير التي يطرحها الخارج ويحاول فرضها علينا. كل الأمم لديها مشاريع بمكونات مشتركة كبيرة توافقية ترضاها غالبية مكونات الأمة، وعيب على مفكري وقياديي هذه الأمة ألا يبذلوا الجهد لتكون أمتهم العربية من بين تلك الأمم.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.