د/ علي محمد فخرو
يعيش الوطن العربي حالياً حالة من فيضان هائج من الكتابات والأحاديث والصور التي تعرض نفسها على الإنسان العربي ليل نهار، فتدخله في حيرة من أمره بسبب كثرتها وتناقضاتها مع بعضها البعض وإثارتها لشتى الشكوك في عقله.
ومع التزايد الهائل في أعداد الصحف ومحطات التلفزيون والإذاعات ووسائل التواصل الإلكتروني تزداد أعداد الكتاب والمتحدثين غير المؤهّلين أو الدخيلين والمندسِّين. كلُ ذلك يُدخل الإنسان العربي، وعلى الأخص الشباب منهم، في حيرة وضياع وغوايات فكرية وعاطفية.
ما العمل إذن لمواجهة كذا مشكلة، تتفاقم وتكبر؟ في اعتقادي أن المدخل الرئيسي هو توعية وتدريب الشباب على أن يعي الفرق بين أسلوبين في الكتابة وطرحين في الأحاديث والمناقشات.
هناك الأسلوب والطرح الذاتي الشخصي أو الإيديولوجي الذي لا يرى في أيِّ موضوع إلا نتائجه النهائية ولا تهمّه الأسباب الكامنة وراءه والمؤدِّية إلى تلك النتائج.
وهناك الأسلوب والطرح الموضوعي المحايد الشامل الذي لا يكتفي بمعرفة ووصف الصورة النهائية لأي حدث أو موضوع يُكتب أو يُتحدث عنه وإنَّما أيضاً يغوص في الأسباب التي قادت إلى تلك الصورة النهائية التي يراها الإنسان أمامه.
دعنا نذكر أمثلة لتوضيح ما نعني ولتبيان الفرق بين الأسلوبين والطرحين.
يكتب أحدهم عن دكتاتور عربي حكم بقبضة استبدادية دموية هذا القطر العربي أو ذاك باسم هذا الحزب أو ذاك. يكتفي هذا الكاتب بوصف ما يتعلق بذلك الدكتاتور من شخصية مرضية نفسياً تقوده إلى الممارسة السَّاديَّة ضدَّ مناوئيه وضدَّ شعبه، وإلى استئثاره المطلق باتخاذ القرارات وحكم العباد ممَّا ينتهي إلى تدمير البلاد التي يحكم. مثل هكذا كتابة لا تزيد عن أن تكون عبارة عن كاميرا تصوِّر المشهد بدقَّة دون أن تظهر ما وراء المشهد. إنها كاميرا تصوِّر الابتسامة أو الحزن ولكنها لا تصور ما وراء ذلك.
ما وراء المشهد، والمتمثِّل في ضعف أو انتهازية أو غياب أية ممارسة ديمقراطية في الحزب الذي يحكم الدكتاتور باسمه يبقى من المسكوت عنه. وهكذا يقتنع الكثيرون بأن المشكلة ستحلُّ يإيجاد دكتاتور آخر أكثر رحمة وأقلُ دموية، وهذا سراب وأمنيات.
لنأخذ موضوعاً آخر أثير عند علماء وكتَّاب الاجتماع العرب ويقرأه الإنسان يومياً في صفحة القرَّاء أو يسمعه من ألسنة الشَّاكين. يتحدث هؤلاء أو يكتبون، بلوعة وبكثير من الواجب والمسئولية، عن شباب وشابَّات الجيل الجديد وارتكابهم الأخطاء تجاه عائلاتهم ووالديهم. وتنصبُّ اللعنات على أبناء هذا الجيل بسبب مخالفتهم للتوجيهات القرآنية أو الأحاديث النبوية التي تأمر بكل وضوح وقوة بالبرِّ بالوالدين. لكن لا أحد يذكر شروط تلك التوجيهات الإسلامية الرائعة من توفُّر رحمة وحبٍّ غير نفعي وتسامح ورفق في المعاملة واحترام للكرامة الإنسانية، والتي بسبب نبل وسمو ومكانة من يمارس تلك الشروط عند الخالق، أعطى الإسلام تلك الأهمية الكبرى لموضوع البرِّ والطاعة للوالدين، غير المشروطين وغير المحدودين. فلا القرآن ولا الأحاديث يمنحان شيكاً على بياض، وإلاً فإن العدالة الإلهية ستكون مجروحة ومنحازة.
وينطبق الأمر نفسه على مدح وتبجيل تاجر أو شركة أو مسئول عندما يجودون بتبرُّع هنا أو هناك، هذا في الوقت الذي يعرف القاصي والدَّاني أن المتبرِّع يقدِّم فتاتاً من نهب وسرقات وجشع يمارسهم يومياً دون رحمة أو ضمير. بغياب التقييم الموضوعي، الذي ينظر إلى الأمور من كل الزوايا، يتربَّع ذاك السارق على عرش الإطراء والتبجيل.
الأسلوبان والخطابان في التعامل مع تلك المشاهد الثلاثة، وهناك آلاف غيرها، هما أسلوبان وخطابان ذاتيَّان شخصيَّان أو سطحيَّان في أقلِّ تقدير وأحياناً منحازان مراوغان عند البعض. إن عدم معرفة وقدرة الملايين من شباب العرب كشفهما وتجنُّب خداعهما هو أحد أسباب استمرار الصحف الصفراء، من طائفية أو نفعية مشتراة من قبل قوى في الخارج أو الداخل، في الصدور والانتشار، وهو أحد أسباب وجود مستمعين ومشاهدين لمحطات تلفزيونية فاجرة لئيمة لا تقدِّم إلا أنصاف الحقائق ولا تغوص في الأسباب ولا تشير إلى المسئولين الحقيقيِّين المختفين وراء الأقنعة.
هناك قول لرسّام فرنسي من «أن الحقيقة موجودة، لكن الأكاذيب هي التي تُخترع». الذين يمارسون الأسلوب أو الخطاب الذاتي غير الموضوعي يعرفون الحقيقة، لكنهم عن قصد أو غير قصد، يغلٍّفونها بألف حجاب حتى لا يراها الآخرون.