منذ زمن بعيد تساورنا المخاوف على ضياع حق العودة وحين انحرف الخطاب السياسي الرسمي الفلسطيني والعربي من الحديث عن حق اللاجئين في العودة إلى الحديث عن حل "عادل" ومتفق عليه لقضية اللاجئين، ازدادت هذه المخاوف. واليوم وصلت هذه المخاوف والأخطار على حق العودة ذروتها حين بات الحديث يجري علنا عن مجرد عودة بضعة آلاف فقط إلى أراضيهم الأصلية خلال عشر سنوات، من أصل أكثر من سبعة ملايين لاجئ.
وحين جرى تحريف مفهوم العودة بأنه عودة إلى " الوطن " أي أرض الدولة أو السلطة الفلسطينية وليس إلى الأرض التي طردوا منها عام 1948. مما يعني إلغاء صفة اللجوء عن المليوني لاجئ الذين يعيشون في مخيمات ومدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة، واعتبارهم عائدين وليسوا لاجئين. وتجاهل حقوق أكثر من ربع مليون مهجر داخل الخط الأخضر في استعادة قراهم وأراضيهم المحرومين منها.
ويراهن أصحاب هذا الخطاب، ويتوهمون أنه يمكن تمرير هذا الحل إذا ترافق مع قيام دولة "أو دويلة" فلسطينية، واستعادة جزء من القدس. أو إذا استغلت حالة الفقر والبؤس التي يعيشها اللاجئون وَوُعدوا بتعويضات مغرية عن أراضيهم وممتلكاتهم.
وللرد على هذه المخططات والمراهنات نقول:
1 – إن حق العودة غير مرتبط بموضوع الدولة. فكلاهما حق طبيعي وأساسي للشعب العربي الفلسطيني، ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر أو يلغيه. بل إن حق العودة كان هو الأساس في الأهداف والثوابت التي قامت عليها منظمة التحرير. وهو المبدأ الذي حظيت المنظمة بموجبه بشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني. وأي مساس بهذا المبدأ هو مساس بشرعية التمثيل. فحين قامت المنظمة لم تكن الضفة وغزة – اللتين يجري الحديث عن دولة على أراضيهما – محتلتين. ولم يتضمن الميثاق القومي الأول للمنظمة عند إنشائها عام 1964 أي إشارة لقيام دولة فلسطينية. بل كان التركيز أساساً على حق العودة. خاصة وأن المنظمة، وكل فصائل المقاومة انطلقت جميعها من مخيمات الشتات. وكانت هذه المخيمات هي حاضنة الثورة ووقودها. وكان حق العودة هو الحافز الأساس الذي دفع جماهير الشعب الفلسطيني للانخراط في صفوف الثورة، والالتفاف حولها.
2 – لا يمكن القبول بان يكون حق العودة جزء من صفقة حل سياسي تقوم على المساومة على حق مقابل حق آخر، أو التفريط بحق للحصول على حق آخر. فالقدس، مثلا – كما قلنا ونقول دوما – بكل قدسيتها، وعظمتها، ومكانتها التاريخية، وحرصنا على استعادتها وتمسكنا بها…. جزء من الوطن. لكن اللاجئين هم الوطن كله. والدولة المستقلة أيضا، التي يطمح الجميع لتحقيقها جزء من القضية، لكن اللاجئين هم القضية كلها. وهذا يعني أن حق العودة هو حقنا الأول والأخير.
3 – حق العودة لا يمكن التفاوض عليه كحق. بل إن التفاوض يجب أن يكون على وضع آلية لعودة اللاجئين، كل اللاجئين، لأراضيهم وممتلكاتهم الأصلية التي طردوا منها عام 1948. والآلية تقوم أولاً على مبدأ الاعتراف بحق اللاجئين جميعاً في العودة إلى ديارهم. ومن ثم وضع خطة لتطبيق ذلك من حيث توفير شروط استيعابهم وتأهيلهم في أراضيهم الأصلية، والأعداد التي يمكن استيعابها سنوياً، والمدة الزمنية التي تستغرقها عملية العودة، شريطة ألا تترك لمدى زمني مفتوح. وهذا يعني أن مسار المفاوضات الذي يجري الحديث فيه – كما تقول الأنباء – عن عملية لم شمل لبضعة آلاف من اللاجئين خلال عشر سنوات أمر خاطئ ومرفوض.
4 – وإذا كان البعض يتوهم أنه يمكن تمرير هذه المفاهيم الخاطئة لحق اللاجئين في العودة من خلال عملية استفتاء على صفقة سياسية تتناول مختلف القضايا بما فيها قضية اللاجئين، فإنه يمارس عملية خداع لا يمكن أن يقع فيها شعبنا، وهو بذلك يتجاهل وعي شعبنا وثقافته السياسية وتمسكه بثوابته الوطنية. فهل يتصور أصحاب هذه الرؤية – إذا أخذنا حق العودة كمثال – أن يقبل أصحابه الاستفتاء عليه؟ فما هو معروف وثابت قانونيا وسياسيا وأخلاقيا على مستوى العالم، أن الاستفتاءات لا تجري على الحقوق، وإنما على السياسات وآليات التنفيذ. وفيما يتعلق بحق العودة، فإن له خصوصية أخرى. فهو بالإضافة لكونه حقاً وطنيا عاماً للشعب الفلسطيني، فهو حق خاص، وفيه ملكية شخصية لكل لاجئ لا يجوز أن ينوب أحد عن صاحبها في التصرف بها. وبالتالي فإن أي موقف يتعلق بقضية اللاجئين، يجب أن يكون الرأي الأخير والفاصل فيه للاجئين أنفسهم.
5 – أما فيما يتعلق بمسألة التعويض التي يجري الحديث عنها كثمن لأرضنا. فردنا عليها أن وطننا ليس قتيلا حتى نقبل "دية" عنه. فأرضنا، بكل نبض الحياة فيها، مازالت ماثلة أمام عيوننا، وهي مزروعة في قلوبنا، تنبت وتزهر وتثمر كل عام مزيدا من المحبة والعطاء والذكريات.
وإذا كان الجاهلون، أو المتجاهلون، لمدى تمسكنا بأرضنا وحقنا في العودة إليها وعودتها لنا، يراهنون – لتمرير مخططهم – على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتردية للاجئين، فردنا عليهم إن الفقر ليس عيباً، وقد حملناه في مخيماتنا منذ اللجوء حتى اليوم، ولم ينقص من عزيمتنا، ولم تضعف رغبة شعبنا في العودة بل تضاعفت، ولم يتراجع إصراره على نيل حقوقه بل تقدم. ولمشكك في عمق هذه القضية في روح الشعب الفلسطيني ولاجئيه، أن يزور مخيماتهم في الداخل أو الخارج، ويلتقي أطفالهم ممن لم يتجاوزوا السادسة من أعمارهم، المحرومين من ضرورات الحياة البسيطة، وليسألهم – قبل أن يسأل آباءَهم وأجدادهم – إن كانوا يقبلون ثمنا لوطنهم الأصلي، أو تعويضاً عنه، ليكتشف مدى رفضهم لذلك. وهذا لا يعني أنهم لا يطالبون بتحسين أوضاعهم، ولكن تحسين الأوضاع شيء ممكن دون أن يكون ثمنه التنازل عن حقوقهم. وهم يطالبون بتعويضهم عما نهب من خيرات أرضهم، واستثماراتها على مدى سنوات الهجرة – وهذا حق طبيعي لهم – وهو يكفي لتحسين أحوالهم وتطويرها، دون أن يساوموا على أرضهم. وهذا النوع من التعويض فقط هو الذي يمكن تناوله بالنقاش.
6 – ويبرر أصحاب هذه الرؤية القاتلة لحق العودة أن الظروف الواقعية، الفلسطينية والعربية والدولية هي التي تدفعهم لتبني هذه الحلول والقبول بها.
هذا الفهم للواقعية الذي يقوم على تنازل شعب بأسره عن كامل أراضيه وحقوقه لطرف آخر، والتوقف عن المطالبة بها، والتوقيع على صكوك تحرم عليه وعلى أجياله اللاحقة حق الادعاء بوجود أية حقوق له لدى الطرف الآخر…. لم نقرأه في أي من مدارس الواقعية أو كتبها. إننا نفهم أن الظروف الواقعية الراهنة قد لا تمكننا من نيل كامل هذه الحقوق الآن، ودفعة واحدة. ونقبل أن يتم الحصول عليها كاملة بالتدريج وفق خطة زمنية محددة. وندرك التأثير الذي تركه على واقعنا تقصير الجيل الفلسطيني والعربي الحالي، أو عجزه عن تحقيقها نتيجة تردي الحالة الفلسطينية والانقسام الذي تعيشه، وحصار الجوع والموت الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وبسبب تراجع الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية وخضوعه لهيمنة