عبد العزيز المقالح
في مستطاع أي إنسان محدود المعرفة يتابع الأوضاع العربية الراهنة أن يدرك بوضوح تام أن العرب – وبعض أصحاب الحل والعقد منهم خاصة – لم يعودوا يستثيرون عقولهم أو يتعاملون مع أوليات المنطق، وأن الأقلية من هؤلاء التي لا تزال تحترم العقل وتنظر إلى ما يجري في الواقع بمنطق الحكمة والإدراك باتت محاصرة وغير قادرة على إيقاف حالة الانحدار السائرة بالجميع نحو الهاوية .
والحق يقال إنه وضع غير مسبوق في تاريخ الأمم والشعوب أن يفقد الناس عقولهم ولا يعودوا يفرقون بين الخطأ والصواب، تسوقهم جميعاً حالة من الانفعال الخالي من أي شعور أو إحساس بما يترتب على كثير من المواقف التي يتم اتخاذها تحت وطأة هذه الحالة الانفعالية المؤقتة والتي سوف يتبعها ندم كبير ومحاولات فاشلة في إصلاح ما أفسدته الحماقات وأدّى إليه الاستعجال .
ومنذ وقت بعيد والعقلاء يتساءلون: هل انتهى زمن الاحتكام إلى العقل؟ وهل انتهى معه زمن الوصايا الأخلاقية؟ وهل الحرية التي ينشدها البشر تعني التحلل من القيم والخروج على كل ما اتفقت الأديان على أنه خير؟ أسئلة يطرحها الواقع بشدة وإلحاح انطلاقاً مما جرى ويجري في عالم اليوم وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، حيث يقتل الأخ أخاه بدم بارد وفي حالة من الانتشاء؟ صحيح أن قتل الإنسان لأخيه تعود إلى بداية وجود الخليقة البشرية على وجه الأرض إلا أن تلك الجريمة وهي الأولى قد تبعها ندم عظيم وحزن جلّلّ وجه الأرض والسماء، ولم يشعر القاتل الأول للحظة واحدة أنه انتصر أو سوّلت له نفسه أن يترك جسم الجريمة ملقاة على الأرض ويمضي فخوراً متبختراً كما يحدث الآن في أماكن كثيرة من وطننا العربي الجريح، حيث صار كثيرون يعتقدون أن القتل، والقتل المضاد يشكلان الطريق الوحيد إلى الوصول إلى السلطة أو الطريق الوحيد للدفاع عنها إذا كانت قد وصلت .
لا وقت لدى أحد للرد على الأسئلة السابقة، فالوقت كله محجور ومستغرق من أجل الفرجة على ما يجري في عدد من الأقطار العربية من أفعال مخيفة ورهيبة، ولا وقت أيضاً للتفكير في ما سوف تؤدي إليه هذه الأفعال الجنونية الحمقاء من ردود أفعال لا تتوقف .
وفي ظني أن ما قدمه العرب خلال العقدين الأخيرين من شهداء وتضحيات كان كافياً لتحرير العالم وإقامة العدالة الاجتماعية في ربوع المعمورة إلا أن هذا الكم الهائل من الشهداء وهذا الكم من التضحيات باستثناء القليل جداً منها قد ذهب مع الريح وخارج كل هدف، وتم تقديمه قرباناً لمعارك مجانية لا تخدم سوى أعداء الأمة والمتحفّزين لالتهامها، ولم تحقق تلك المواكب الجليلة من الشهداء الأبرياء سوى المزيد من الأحقاد والضغائن وما ينتج عنهما من إضعاف الحافز الوطني والديني والقومي لدى الأغلبية الخائفة والمرعوبة مما يحدث هنا وهناك وعلى امتداد الساحة العربية من اقتتال خارج المعقول وفي مناخ خلافات ثانوية بل أقل من ثانوية، وهي إلى الخلافات الشخصية والذاتية أقرب منها إلى أي خلاف موضوعي يتحرى المصلحة العامة أو يذهب بعيداً نحو تحرير الإنسان من أغلال العبودية السياسية والاستهلاكية . علماً بأن الأيام القادمة ما هي إلا حصاد طبيعي لأيامنا الراهنة، وما نزرعه اليوم نحصده غداً، ذلك هو قانون الحياة، ومن يزرعون الشوك والحنظل لن يحصدوا الورد والياسمين . ولعل أخطر ما يخيف في هذا الذي يجري أن الجميع، جميع المشاركين في الصراعات الدموية وصناعة المشهد الآثم يدركون هذه الحقيقة تماماً، حقيقة أن ما يزرعونه في أوطانهم لن يثمر سوى المزيد من الموت والقتل والقتل المضاد، وأنهم جميعاً يحفرون قبورهم وقبور أوطانهم بأيديهم في ساعات أو أيام من الجنون وفقدان التوازن العقلي والروحي والأخلاقي .