عريب الرنتاوي
حفنة من الشباب الفلسطينيين والعرب، أمكن لها اختراق أكثر من ثلاثمائة هدف إسرائيلي دفعة واحدة، من بينها أجهزة أمنية ووزارات ومنشآت مصرفية وسوق مالية وغيرها، متسببين لإسرائيل بخسائر بمئات ملايين الدولارات،
ما استدعى استنفار "جيشاً صغيراً" من المبرمجين الإسرائيليين، وإطلاق صيحات الاستغاثة لكبريات شركات البرمجة وأمن الانترنت في أوروبا والعالم.
هو شكل بلا شك، من أشكال المقاومة الالكترونية..أمكن فيها لـ"الهاكرز" عرض قضية الأسرى والمعتقلين، وطرح جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني على مائدة الرأي العام..هؤلاء ليسوا لصوصاً ولا مجرمين..ليسوا عابثين بلا قضية..لقد أردوا لصوتهم أن يُسمع، فأوصلوه إلى أربع أرجاء العالم.
الحرب في هذه الأزمة (واستتباعاً المقاومة)، لم تعد في البحر والبحر والجو في فحسب..فهي تنتقل إلى المجال الافتراضي، إلى شبكة الانترنت العنكبوتية..الولايات المتحدة والصين، في حرب افتراضية ضروس..إسرائيل التي لم تستطع أن توقف مفاعل بوشهر بكل السبل والوسائل، نجحت في "تعطيله" بضعة أشهر، بمجرد إطلاق "فايروس" ذكي..إسرائيل تتجسس على حليفتها الاستراتيجية عبر الخيوط الافتراضية للشبكة الافتراضية…حزب الله، كان سبّاقاً وريادياً في "مقاومته الالكترونية" عندما تمكن من اعتراض الطائرات الإسرائيلية من دون طيّار، و"تنزيل" ما فيها من معلومات، استخدمها في القضاء على "إنزال عسكري" مدجج في جنوب لبنان.
و"المقاومة الالكترونية"، هي ما يفعله بعض "علماء اليسار" من أنصار الفقراء والعدالة الاجتماعية، الذين يعملون على "تعميم" البرمجيات بعد تفكيكها، وجعلها في متناول شعوب العالم الثالث الفقيرة..هنا ينتقل "الصراع الطبقي" من الأرض إلى الفضاء الافتراضي/ الالكتروني.
هي حربٌ إذن، تضعها إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا و"الناتو" في صدارة التهديدات الاستراتيجية للأمن والاستقرار الدوليين، وترصد لإدارتها والتحكم بها، مليارات الدولارات..ولكنها حربٌ لا يبدو أنها تتأثر كثيراً بالفجوة القائمة بين الأغنياء والفقراء، الضعفاء والأقوياء..كل ما يحتاجه الأمر، عدد من الشبان، صغار السن بخاصة، مع بضعة أجهزة "لابتوب"، وغرفة لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار مربعة، تكفي لأن تكون غرفة عمليات من طراز رفيع.
حفنة من الصبية الموهوبين، قادرة على اختراق البورصة والبنوك والموساد، وربما التحكم بحركة الملاحة الجوية وإشارات المرور الضوئية، وقد تهدي مفاعل "ديمونا" فيروساً من ذات طراز الفيروس الذي أهدته إسرائيل لمفاعل بوشهر..قادرة على "خربطة" أرصدة البنوك والعملاء، وكشف ما في حوزة الدولة العبرية من "أسرار ووثائق دولة"..قادرة إن ارتقت في وسائلها ودهائها، على اختراق أنظمة الحرب الإلكترونية، والوصول إلى ترسانات السلاح وتحويل وجهتها.
هي حرب أقرب ما تكون لصيغ "العمل الفدائي" ومعادلة "أضرب وأهرب"، وتقتضي إتقان تقنيات التخفي والتمويه والانسحاب السريع وتغيير أماكن التمركز والانتشار..وقد أجادها الشبان الفلسطينيون والعرب في أولى جولاتهم، وقد يطورون وسائلهم بصورة لا تنفع معها، نظرية "التفوق" الأمني والعرقي، اليهودية الخالصة
هي حرب لا تستطيع إسرائيل أن ترد عليها بالمثل، ولا أن تحفظ هيبة "قوتها الردعية" باستمرار، فهؤلاء الفتية، يعيشون في دول ما زالت تراوح بين البداوة والزراعة والصناعة البدائية، والكهرباء في معظم دولهم، بالكاد تصل بيوتهم ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً..أين ستجدهم وكيف ستصل إليهم، وبم ستعاقبهم، وكيف ترد عليهم، وما الذي سيخسرونه عند الرد..أسئلة وتساؤلات يصعب الإجابة عليها.
وهي حرب خارج عن سيطرة الأنظمة والحكام، القدامى منهم والجدد..لا تعترف باتفاقيات ولا مواثيق، ولا تخضع لرقابة أجهزة أمنية..أبطالها أقرب لـ"الخلايا النائمة"..تستفيق متى شاءت، وتعود لسباتها العميق متى قررت ذلك.
ما حاجة الضعفاء لاختطاف طائرة بعد اليوم، إن صار بمقدورهم التحكم بحركة الملاحة كلها..ما حاجتهم للرد على تدمير مطار غزة إن صار بمقدورهم تعطيل مطار بن غوريون..ما حاجتهم لرأفت الهجان ومن هم على شاكلته وطرازه، إن كانوا قادرين على "سحب" المعلومات إلى غرف نومهم..ما حاجتهم لإرسال الدوريات العابرة للحدود، إن كانت "القرية الصغيرة" بمجملها على مرمى فيروس من أصغر "لابتوب".
هو عالم جديد، يتكشف عن غرائب وأعاجيب، وما جرى في الهجوم الالكتروني على إسرائيل، هو أول الغيث..فإسرائيل التي سقطت قبل أيام من "العالم الافتراضي" قد تكون عرضة للسقوط أيضاً من العالم الواقعي، عالم الجغرافيا بخرائطة وحدوده وتضاريسه.