قاسم حسين
إن أصعب حال يمكن أن يمر به شعبٌ من الشعوب، هو غياب الأمل بمستقبل أفضل، وحين تنتشر مثل هذه الحالة بين أكثر الشرائح والطبقات، يكون الوضع قد وصل إلى طريقٍ مسدود.
الشعوب تعيش كما الأفراد، على الأمل، فإذا مُنعت عنهم الحوافز، وأغلقت أمامهم النوافذ، وفرضت عليهم أجواء قاتمة، فإن الوطن كله مهدّد بالتدهور والجمود. والخطير أن مثل هذه المشاعر لا تقتصر على تلك المناطق التي تتعرّض لسلسلة ممنهجة من إجراءات التمييز والحرمان غير المكتوبة، وإنما تشمل حتى تلك المناطق التي تُصنّف على أنها من مناطق الموالاة.
سابقاً، كان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يتولّى التغطية على الثغرات، وتزيين السياسات، والتستر على مكامن الخطأ والفساد. أما بعد دخول العصر الرقمي، وتوفر الأجهزة الذكية في كل يد، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يعد الإعلام التقليدي قادراً على التغطية والتستر وإخفاء الحقائق. لقد أصبحت المعلومة متاحةً للجميع، وما كان يعتبر أسراراً، بات متداولاً في الفضاء الالكتروني، يمكن لأي شخص أن يرسله في تغريدة، فيعاد تدويرها بين آلاف المتابعين خلال ثوانٍ معدودة.
وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت تحل محلّ الديوانيات والمجالس والأندية الثقافية، ورغم ما تتعرّض له من هجمةٍ شرسةٍ لتحجيمها وتخويف الجمهور من استخدامها تحت تهديد المراقبة والملاحقة، كما حدث ويحدث في عدد كبير من البلدان العربية، فضلاَ عن إغراقها بآلاف الحسابات المزوّرة و«المجهولة»، فإنها ستبقى نافذةً مهمةً لمعرفة ما يجري في المجتمع المعاصر، وما يجري تداوله من أفكار، وما يعبّر عنه من تطلعات.
في السابق، كانت الصحف والمجلات تتولى استطلاع اتجاهات الرأي العام، بخصوص قضايا تختار تسليط الضوء عليها. أما اليوم، فقد تراجع دور وتأثير الإعلام التقليدي المقروء لصالح قنوات الاتصال الجديدة، بحيث باتت تشكّل وسطاً يمكن من خلاله معرفة اتجاهات الرأي العام الحقيقية دون تزوير أو تزويق. في هذه البيئة الالكترونية، يمكنك أن تستشف وجود حالةٍ عامةٍ من الشعور بالضياع، والخوف على المستقبل، ليس في المناطق التي تتعرّض لتمييز أو إقصاء، أو تعاني من إهمال أو تدني مستوى الخدمات والبنية التحتية، بل في المناطق الأخرى أيضاً. وهو خوفٌ من استمرار الواقع الراهن المأزوم، وخوفٌ من المستقبل الذي لا يشي بأي تغيير إيجابي يدفع باتجاه مخرجٍ من المستنقع. وهو ما يفسّر الرغبة في الهجرة، لدى قطاعاتٍ معتبرةٍ من شرائح المجتمع، خصوصاً ذوي الكفاءات العلمية والمهنية، كانت تبدو في ظاهرها مرتاحةً مالياً، وبعضها كان مستفيداً من الوضع السياسي الجامد سابقاً ولاحقاً.
على الضفة الأخرى، هناك قطاعٌ كبيرٌ من المجتمع يشعر بأنه مستهدَفٌ بسياسات التمييز والتهميش والإقصاء، زادت حدةً وانكشافاً في السنوات الأخيرة. ويتعرّض في حاضره إلى مزيدٍ من الضغوط، السياسية والاقتصادية والأمنية والمعيشية، وقد أصبح يقيم دعاواه بلغة الأرقام، حيث تخضع إلى عملية رصدٍ وتوثيقٍ دقيقة، لكل الخسائر المادية والمعنوية والبشرية، بالنص والصوت والصورة، ويعرضها للعالم ومؤسساته في الفضاء الالكتروني الحر. ففي بلدٍ أوروبي واحد فقط مثل بريطانيا، هناك أكثر من 120 طالب لجوء بحريني، فكم هو العدد الكلي للمغتربين طوعاً أو كرهاً؟ وكم عدد أصحاب الكفاءات العلمية التي هجرت وطنها بحثاً في الخارج عن فرصة عمل كريم؟
أن تعيش تحت ضغوطٍ يومية لسنوات، ويكون هناك شعورٌ عامٌّ بوجود حربٍ ممنهجةٍ تهدّد وجودك وحاضرك، ومستقبل أطفالك وحقّهم المشروع في الحصول على بعثة تعليمية عن جدارة واستحقاق؛ وتواجهك آلةٌ إعلاميةٌ عدائيةٌ لا تتوانى عن تخوينك واستفزازك بلغةٍ بذيئةٍ أبعد ما تكون عن الأخلاق والروح الوطنية؛ كل ذلك يعمّق شعور الغربة في الوطن.
في لاميته الشهيرة، يقول الطغرائي في أحد أبياته وهو يعيش حالة الغربة التي كان يعيشها: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، فكيف إذا كان حالةً شعوريةً تعانيها الشعوب؟