عمر الشهابي
هذا البحث معنيٌّ أساساً برصد وتحليل التّطوّرات في أوجه الخلل المزمنة في دول مجلس التعاون على مدى السنتين الماضيتين، وتبعاتها على دول المنطقة وشعوبها، اعتماداً على الإصدار الاستراتيجي «الخليج 2013: الثابت والمتحول» الذي أعده أكثر من عشرين باحثاً من أبناء دول مجلس التعاون. وفي هذا السعي، نرى من المفيد أن نُقدّم تعريفاً عاماً لأهم هذه الأوجه، حيث يمكن إيجازها في أربعة أوجه خلل مزمنة رئيسية، وهي الاقتصادي والسكاني والأمني والسياسي.
الأول: الخلل الإنتاجي – الاقتصادي
ويتمثل الخلل الإنتاجي في الاعتماد المُطلق، والمُتزايد، على ريع صادرات الثّروة الطبيعيّة المعرَّضة للنضوب، وهي النّفط الخام (الزيت والغاز الطبيعي). ومن المعروف أنّ مصدر مختلف أنواع الدّخل الرئيسية في دول المنطقة هو الريع النّفطي، والناتج من ارتفاع سعر النفط عشرات المرات بالمقارنة مع تكاليف إنتاجه، وهو خللٌ يتجلّى في تركيب النّاتج المحلّي الإجمالي وسائر الحسابات القوميّة الأخرى، لأن مصدر هذه المداخيل هو ريع تصدير ثروة طبيعية «ناضبة»، وليس إنتاجية الأفراد والمؤسسات، كما هو الحال في الاقتصاد الإنتاجي.
ولكي نُدرك مدى هذا الخلل الإنتاجي؛ علينا أن نتصوّر ما يمكن أن يحصل لجميع مصادر الدّخل في المنطقة فيما لو تمّ استبعاد عائدات تصدير النّفط لأيّ سببٍ من الأسباب. ونتيجة لعدم رغبة – وربما عدم قُدرة كلّ من دول المنطقة مُنفردة على تبنّي سياسة نفطيّة وطنيّة تخضع بموجبها صادرات النفط لاعتبارات التّنمية – فقد تمّت تلبيتها للطلب العالمي على النّفط بشكلٍ تلقائي، دون أدنى اعتبار للقدرة الاستيعابيّة أو الطبيعة الناضبة للثروة النّفطية. وبذلك تزايد الاعتماد على ريع النفط منذ عقود، وأصبح هذا الرّيع هو المصدر لإيرادات الموازنة العامة، وميزان المدفوعات، والاستثمارات العامة، وسائر الحسابات القوميّة الأخرى.
وقد صاحب هذا الخلل الإنتاجي المستمر، خلطٌ بين المال العام والمال الخاص، وغياب الشّفافية تجاهه، وذلك إلى درجة اعتبار الموازنة العامة والإحتياطي العام سرّاً يُمنع على المواطنين في بعض دول المنطقة، الأمر الذي أدّى إلى الكثير من التسرّب والهدر، وسوء تخصيص عائدات النفط في الاستهلاك الجاري، بدل توجيهها للاستثمار. كما أدّى هذا الخلل إلى تخلُّف سياسات إعادة تدويرها داخلياً وخارجياً. وباستثناء الكويت – وتحديداً مع صدور دستور 1962 – لا تنشُر دول المنطقة حساباتٍ ختاميّةً للموازنة العامة، بحيث تتضمّن جميع أوجه الدخل، والنفقات العامة، ولا حسابات مُدققة للاحتياطي العام، كما إنّها لا تنشر تقارير ديوان المحاسبة، في حال وُجدت أصلاً. وفي هذا الصدّد، هناك ما يزيد على 750 مليار دولار أميركي من الفروقات في تقديرات عوائد صادرات النفط والغاز الفعلية، في مقابل العوائد العامة المُعلنة رسمياً على مدى العقد الماضي، والتي تحتاج إلى تفسير، وتبيان سبب هذه الفروقات العالية.
وقد يكون المتحوّل الرئيسي على مستوى الخلل الاقتصادي؛ هو بروزُ شبح مصاعب اقتصادية عميقة، قد لا تكون بعيدةً عن المنطقة، تتمركزُ أساساً في عدم قدرة إيرادات النفط المتقلبة على تلبية الاتفاقات المتفاقمة في بعض دول المجلس، خصوصاً ذات الموارد النفطية المتواضعة نسبياً. وقد يكون أفضل مثال على ذلك البحرين، حيث بدأت تلوحُ بوادرُ أزمة اقتصادية عميقة، تمثلت في تفاقم الدّيْن العام إلى نسبة 40% من إجمالي الناتج المحلي، وتواصل العجز السّنوي العالي في الميزانية، نظراً للمصروفات الجارية المتزايدة وعدم إمكانية إيرادات النفط من تلبيتها. ومما يُفاقم من هذه الأزمة، هو تجذّر الاعتماديّة على النفط، بوصفه العنصر الرئيس في إيرادات الميزانيّة العامة، حتى بلغ سعر البرميل المطلوب لمعادلة الميزانية أكثر من 100 دولار. وتتزامن بوادر هذه الأزمة الاقتصاديّة مع ذروة الأزمة السياسية الحادة التي تشهدها البلد منذ فبراير 2011، وستكون جدليّة التحوّلات السّياسيّة والاقتصاديّة في البحرين؛ محطّ أنظار باقي دول المنطقة.
على الرّغم من اختلاف حدة الوضع في باقي دول المجلس عند مقارنتها بالبحرين، فهذا لا يعني اختفاء بوادر الأزمة الاقتصادية كلياً عنها. ففي أغنى الدول النفطية، وخصوصاً في قطر والإمارات؛ بدأت الديون الخارجية تتراكمُ بشكلٍ مُقلق جداً، خصوصاً في دبي وقطر (وتشير التقديرات المتحفظة بأنّ حصة كلّ مواطن من الدّين الخارجي قد يزيد على 742 ألف دولار أميركي و302 ألف دولار أميركي في دبي وقطر على التوالي)، ووصل إجمالي الدّيْن العام إلى أكثر من 30% من الناتج المحلي، وهذا رقمٌ مُقلق في دولٍ من المُفترض أن تكون مُصدِّرة لرأس المال. وقد وصل سعرُ البرميل المُتطّلب لموازنة الميزانية في الإمارات إلى 85 دولاراً، وهو رقمٌ عالٍ نسبياً. وفي حين نجدُ أنّ الوضع قد لا يُعتبر كارثياً على المدى القصير؛ إلاّ أنّ هذه الوضعيّة لا يمكن لها أن تستمر على ما هي عليه على المدى البعيد، خصوصاً في ظلّ تفاقم الخلل الإنتاجي في دول المنطقة، والمُتمثل في تواصل الاعتمادية على الرّيع المُحصّل من بيع النفط في أسواق خارجية ما انفكّت أسعارها تتقلّب، فتتقلب معها اقتصادياتُ المنطقة، صعوداً وهبوطاً.
الثاني: الخلل السّكاني المتفاقم
يُمكننا تعريف الخلل السّكاني على أنّ دول المنطقة تتأسّس على مجتمع يُشكل فيه وافدون غير مواطنين نسبةً عاليةً من سكان وقدرات المجتمع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لفترةٍ ممتدة ومتصلةٍ من الزمن. ومما لا شك فيه أن الوافدين لعبوا دوراً تنموياً رئيساً في بناء ونهضة مجتمعات دول مجلس التعاون، وليس هذا موضوع النقاش. ففي كثيرٍ من المجتمعات في تاريخ البشرية تواجد فيها الوافدون بصورةٍ مكثفة، لكن التطور في أغلب هذه المجتمعات على امتداد الزمن كان يعني إما عودة الوافدين إلى ديارهم بعد انقضاء المهمة والفترة المعينة التي قدموا من أجلها، وبذلك تتقلص نسبة الوافدين، أو أن يتم دمج الوافدين على مر الوقت في المجتمع فيصبحوا جزءًا مكوّناً منه ومواطنين شركاء فيه تجمعهم وحدة الأرض والمصير. أما حالياً فلا هذا ولا ذاك هو الحاصل في دول مجلس التعاون، حيث تتزايد أعداد الوافدين مع مرور الزمن، وإمكانية اندماجهم تبدو شبه معدومة لا من ناحية القدرة الفعلية أو إرادة شعوب المنطقة. وهذا ينذر بأن التركيبة السكانية الحالية في دول المجلس غير مستدامة على المدى البعيد، وهنا مكمن الخلل.
وبسبب إهمال إصلاح الخلل السكاني وتجاهله؛ ارتفع عددُ سكّان دول مجلس التعاون من عشرة ملايين في العام 1975، إلى 40 مليوناً في العام 2010، وبذلك ارتفعت نسبة الوافدين في إجمالي سكان دول مجلس التعاون إلى 48 في المئة العام 2011 مقارنةً بما يقترب من 22 في المئة العام 1975. كما تدّنت نسبة مساهمة المواطنين في قوّة العمل إلى 33 في المئة مقارنةً بـ 61 في المئة العام 1975.
هذا بالنسبة لإجمالي السّكان وقوة العمل المجتمعة للمنطقة، أما الدول الصغيرة منها؛ فقد تدّنت – في دولة قطر والإمارات على سبيل المثال – نسبة المواطنين من مجموع السكان إلى أقل من 15 في المئة، وتراجعت نسبة مساهمة المواطنين في إجمالي قوة العمل إلى 6 في المئة فقط، وذلك في العام 2010. ويُذكر أن الخلل السكاني في دول المنطقة برز كظاهرةٍ عامة منذ الطفرة النفطيّة الأولى في العام 1973، مما يُبيّن ارتباطه الجلي بالخلل الإنتاجي/ الاقتصادي الذي تمّ سرده سابقاً.
ويُبيّن هذا البحث أنّه في العقد الماضي، برزت ظاهرة سياسات المشاريع العقارية الضخمة المُوجّهة بشكلٍ رئيسي إلى المشتري الدّولي، وذلك في أربع من دول المجلس: (الإمارات، البحرين، عمان، وقطر). في كلٍّ من هذه الدول؛ اتّجهت سياسات ورؤى متّخذي القرار نحو دعم هذه المشاريع علناً، وتمّ وضعها في صُلب واقع المنطقة وتطلّعاتها. وبهذا، تغيّرت رؤية متّخذي القرار ومعاملتهم لظاهرة تدفّق الوافدين إلى المنطقة، وذلك من النّظر إليها بوصفها ظاهرةً عَرضيّةً لابدّ منها، هدفها سدّ متطلّبات الإنتاج في المنطقة، إلى تبني استقطاب الوافدين، ليكون ذلك هدفاً أساسياً ينبغي تشجيعه والتحفيز عليه بغرض زيادة الطلب الاقتصادي عليه في دول المجلس. وتُبيّن الأرقام أنّ هناك نيةً لبناء ما لا يقلّ عن 1.3 مليون وحدة سكنيّة، تسع لاستيعاب 4.3 مليون قاطن، وهو ما يتعدّى سكان هذه الدّول الأربع مجتمعةّ. (يتبع)