عمر الشهابي
استعرضنا في الجزء الأول من هذا البحث الموجز الخلل الاقتصادي والسكاني في دول الخليج العربية، وفي هذا الجزء نستكمل بقية أوجه الخلل الأربعة المزمنة بالتطرق إلى الخلل الأمني والسياسي.
الثالث: الخلل الأمني والإتّكاليّة على الغير
يتمثل جوهر الخلل الأمني في عدم مقدرة دول المجلس على الدفاع عن نفسها وتأمين الاكتفاء الذاتي من الحماية العسكرية، وذلك لأسبابٍ تتعلّق بصغر وضعف كلٍّ من دول المنطقة منفردةً. وهو الأمر الذي جعلَ كلاً منها تجد «أمنها» في التحالف مع دول عظمى، وإعطائها تسهيلات عسكريّة من أجل حماية نفسها. ولا ينبغي النظر إلى علاقة دول المنطقة مع الدول الكبرى على أنها علاقة صدامية بحتة، أو على أنها علاقة تبعيّة خالصة. ولكن الصحيح هو النظر إليها بوصفها علاقة مصالح مشتركة، تشهد أحياناً قدراً من التقاطع، وأحياناً أخرى تمرّ بظروفٍ متنافرة.
ومما لا شك فيه أن دول المجلس تواجه تحديات وتهديدات جوهرية في إقليم مضطرب أمنياً، كما كان الحال مع غزو العراق للكويت في 1990 واحتلال إيران المتواصل للجزر الإماراتية، إلا أن جوهر الخلل يكمن في أسباب عدم قدرة دول المجلس في التصدي لأية تهديدات لأمنها بنفسها. ولارتباط هذا الخلل بالبنيّة الاقتصاديّة والسياسية في دول المنطقة؛ فإن في ذلك ما يُعقد المشاكل المرتبطة بتلك البُنى، ويضيف إليها بُعداً آخر يُضاعف صعوبات الحل والتجاوز. وتُبيّن الإحصائيّات، أنّه في العام 2012 تواجد حوالي 30 ألفٍ من القوّات العسكريّة الأجنبيّة في دول مجلس التعاون، بالإضافة إلى 20 ألف عنصر آخر من البحرية الأميركية التي تجوب بحار الخليج.
وثمّة بعد آخر للخلل الأمني يخصّ وضع المنطقة الأمني الحرج في جانب المقومات الحياتيّة الحديثة، والتي تمثّل أهم الموارد الأساسيّة، وهي الماء والغذاء والطاقة والبيئة الطبيعية، حيث تعتبر دول المنطقة من أفقر دول العالم من ناحية الثروة المائية والغذائية، وهي – أساساً – تعتمد بشكلٍ كلّي على ثروةٍ ناضبةٍ في توفير احتياجاتها من الطاقة والكهرباء. في المقابل، فإنّ استهلاك المنطقة للمياه والغذاء والكهرباء يُعتبر الأعلى عالمياً. هذه التركيبة المكوّنة من استهلاكٍ مفرط، وشُحٍّ في الموارد؛ يُنذر بخلطةٍ متفجّرةٍ قد تضع المنطقة في وضعٍ حرج، وفي زمنٍ قد لا يكون بعيداً.
الرابع: الخلل السياسي
أخيراً، وليس آخراً، يجبُ التطرق إلى الخلل السياسي، ويتمثّل هذا الخلل في غياب نُظم حُكم ديمقراطيّة، وعدم مراعاة مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية، وضعف المُشاركة السياسية الشعبية الفعالة في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة في أغلب دول المنطقة، وهو الأمر الذي أدّى إلى استمرار الخلل في علاقة السلطة بالمجتمع، والذي نتجَ عنه وجود «سلطة أكثر من مطلقة، ومجتمع أقل من عاجز»، بتعبير الزميل محمد غباش.
قد يكون هذا كله معروفاً للجميع، وقد تم التطرق إليه بأشكال متفاوتة في دراساتٍ وكتاباتٍ سابقة، لكن أهمية الخلل السّياسي – في هذا السّياق- عادت إلى الواجهة في خضم تداعيات الانتفاضات العربية التي أطاحت بحكّام في تونس ومصر وليبيا، وقد وصلت موجات الاحتجاجات إلى أغلب دول مجلس التعاون. وهذا يُعطي دافعاً قويّاً لإعادة تقييم الوضع السياسي في هذه الدول، والتأمل في وتيرة التطورات داخل كل دولةٍ على حدة، بالإضافة إلى تحليل أوجه التقاطع والتشابه بين دول المجلس مجتمعةً.
وكانت الحركات الاحتجاجية على أشدّها في البحرين، ولكن التحركات في الكويت وعمان وصلت أيضاً إلى مراحل غير مسبوقة، وحتى في السعودية والإمارات بدأت تظهر بوادر حراك معارض ذي كتلة عددية حرجة، بل إن هناك بوادر حراك، وإنْ كانت خجولة، شرعت بالظهور في قطر أيضاً.
وتميّز هذا الحراك استراتيجياً؛ بالاعتماد الكبير على برامج التواصل الاجتماعي، خصوصاً تويتر وفيسبوك، حيث تمّ إعلان أكثر من مسيرة وتجمّع على هذه البرامج. وفيما عدا حالة قطر والإمارات نسبياً؛ قد يكون أكثر ما ميّز هذا الحراك هو النزول إلى الشارع في مسيراتٍ واحتجاجات، خصوصاً من قبل الشباب، وهو ما كان غائباً عن الساحة (فيما عدا البحرين) لمدّةٍ طويلة. كما تميّز هذا الحراك عامةً بمسحة الخطاب الحقوقي الليبرالي عليه، مركّزاً بشكلٍ مكثف على خطاب حقوق الانسان، خصوصاً في الإمارات والبحرين والسعودية وعمان، هذا بالاضافة إلى تواصل دور الخطاب الإسلامي (بشقيه السني والشيعي) في لعب دور أساسي، وإنْ كان قد خفّ بريقه، وامتزج في كثيرٍ من الأحيان مع الخطاب الحقوقي. ولعب التواصل مع المنظمات غير الحكومية الغربية دوراً محورياً في دعم هذه الاحتجاجات وتوفير التغطية الإعلامية الغربية للتطورات في الخليج، والتي برزت بشكل مكثف وبصورة غير معهودة سابقاً، خصوصاً في الإمارات والبحرين.
في المقابل، تفاوتت ردّة فعل السلطة. القاسم المشترك بين كل دول الخليج كان إعلان مزايا وعطايا مادية جديدة للمواطنين، وهي استراتيجية تقليدية للتعامل مع أية اضطرابات شعبية محتملة، أكانت عن طريق رفع الرواتب أو المنح أو توفير أعمال جديدة في القطاع العام، وفُعّلت هذه الإستراتيجية في كل دول المجلس بلا استثناء.
بالإضافة إلى ذلك، فلقد لعبت إستراتيجية القوة الأمنية دوراً محورياً أيضاً، وإن تفاوتت حدتها بين دول المجلس. فنرى أنها كانت أشد وطأةً في الإمارات والبحرين والسعودية، وقد تكون البحرين هي من تصدّر استعمالها، بينما كانت الأخف في قطر ذات الحراك السياسي المتدني نسبياً.
أما بالنسبة إلى الإصلاح السياسي الجدي، فلم تأخذ هذه الاستراتيجية حيزاً كبيراً في أيٍّ من الدول، فيما عدا عمان بعد إجراءات السلطان في العام 2011 والتي أدّت إلى تغييرات وزارية ودستورية تعدّت تلك في أي من الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن البحرين أجرت تعديلات دستورية أيضاً، إلا أنها إجمالاً تمّ رفضها من قبل المعارضة واتهامها بأنها شكلية وبلا أي مغزى، على عكس الحال في عمان. ويرى بعض المراقبين أن هناك بوادر حركة متسارعة من التغيرات السياسية أيضاً في السعودية، بما فيها دخول المرأة إلى مجلس الشورى والانفتاح النسبي الإعلامي، إلا أن طبيعة هذه الإصلاحات لاتزال موضع شكوك حول مدى نطاقها وجديتها. أما في الكويت، فقد أدت الضغوطات السياسية إلى تغيير في رئيس مجلس الوزراء وحل المجلس النيابي أكثر من مرة، ولكن لازالت تبعات هذه الهزات السياسية من الناحية الدستورية والقانونية غير واضحة. (يتبع).