أهمية الثقافة الفنية والأدبية
في التربية الداخلية لبعض الأحزاب والحركات السياسية
تعلمت أن أنظر الى المشروع الثقافي والفكري لأي حزب أو حركة سياسية من خلال المساحة المخصصة للمواضيع الفنية والأدبية الجادة التي تشمل فن السرد (قصة ورواية) والشعر والرسم والسينما والمسرح التي يمكن ملاحظتها والإحساس بتأثيرها في البنية الثقافية "التربية الحزبية" للمنضوين تحت راية تلك الأحزاب والحركات والتيارات، وإن غياب مثل هذه الإهتمام هو مؤشر على مشكلة ما في البنية الثقافية والفكرية لتلك الحركة أو ذلك الحزب ومثل هذه الظاهرة ملحوظة في الأحزاب القومية والدينية. وفيما يلي ملاحظاتي حول هذا الموضوع:
– بداية وأنا أكتب هذه الورقة يهمني التأكيد على التفريق بين "الدولة" وبين "الحركة أو الحزب السياسي" الذي قد يتولى مقاليد السلطة السياسية في هذا البلد أو ذاك. ولكن الموضوع هنا ينظر الى التكوين الثقافي والفكري لأعضاء هذا التيار أو تلك الحركة بناء على مشروع "التربية الداخلية" للحركة التي ينتمون إليها. فوجود الفن والأدب في الدولة هو عملية موروثة الى حد كبير من المرحلة التي سبقتها، على سبيل المثال ثورة يوليو 1952م في مصر ورثت إرثاً فنياً وثقافياً مهماً من العهد الملكي وهو الذي وقف وساند المشروع الناصري في كل الساحات، ومن ثم مهما تكن السلطة السياسية متخلفة وجاهلة، وغير مؤمنة بدور الفنون، فهي لن تقدم على المغامرة المكشوفة باقصائه بشكل كامل ومباشر، ولكنها أيضاً لن تعدم اختراع أدوات التضييق على الحركة الأدبية والفنية وخنقها وإبقائها في الحدود الدنيا (لا تغني ولا تسمن من جوع).
– يستطيع كل مراقب أن يلحظ إتساع الهوة وتزايدها بين أي حزب أو حركة سياسية لا تؤمن بأن الفن بكافة أنواعه هو جزء من مشروعها الفكري والثقافي وبين الأجيال الجديدة، إلى الحد الذي صار المشهد، في بعض المواقف، باعثاً على السخرية والتنكيت من قبل بعض المنتمين الى هذه التيارات ذاتها، حين يلتفت أحدهم وهو يتحدث عن موضوع يعتبره مهماً وحيوياً في تاريخ الأمة ليقول للحضور (هل ترون يا أخوان! ليس بين الحضور هذا المساء من هو أقل من 50 سنة .. كلنا مجموعة متقاعدين، ألا يوجد في هذه البلاد أي شاب أو فتاة يهتم بما حدث ويحدث لأمته؟).
– حين نحضر ندوة عن ذكرى حدث تاريخي مهم في حياة الوطن أو الأمة، قديم أو حديث، يعرف الحضور سلفاً ما سيقوله المحاضر الكريم (وإن بشكل عام)، شكلاُ ومضموناً، دون أن يختلفوا معه (أي المحاضر) في شيء مهم، فليس هناك مبرر للاختلاف إلا فيما ندر (ماذا تختلف معه وهو يتحدث عن جرائم الكيان الصهيوني في فلسطين؟ بماذا تختلف معه وهو يتحدث عن جريمة الإحتلال الأمريكي للعراق؟ …ألخ). نلاحظ أن التوقف عند هذه النقاط والمناسبات التاريخية ذاتها في كل عام وبنفس الروح الخطابية يفترض أن لا يكون مجرد عادة، وإلا فإنه يصبح أمراً يبعث على السأم والملل إلى درجة الكفر، فالمتحدث ليس أمامه إلا أن يعيد نفس الإنشاء وإن تغير الأسلوب من تقديم أو تأخير أو إضافة بسيطة لمثال أو مثالين هنا أو هناك قد يكون استقاها من مصادر حديثة كتبت أو تحدثت عن الموضوع، ولكن يبقى شكل ولب الحديث كما طرحه في العام الماضي والأعوام التي سبقته.
– الفن والأدب هي مؤشرات حقيقية لما يدور في رحم المجتمع من تغيرات وأحداث، ولما يصاحب مزاجه من تغير دائم تجاه الواقع السياسي والإجتماعي الذي يعيشه هذا المجتمع، ولهذا فإن افتقاد البنية الثقافية لأي حركة أو حزب لهذا الجانب هو مؤشر على افتقاده للحيوية والتجديد، وأن اشتمال البرنامج التثقيفي لأي حركة أو حزب أو تنظيم سياسي على جرعة مؤثرة من الأدب والفن يعتبر مؤشراً على عقلية القيادة لذلك الحزب وتلك الحركة، فبقدر ارتفاع هذه النسبة في التكوين الثقافي لأعضاء هذه الحركة يكون هؤلاء الأعضاء أكثر حيوية وقدرة على التفكير النقدي والإحساس بالحراك العميق للمجتمع وتفاعله مع تفاصيل الحياة فيه، ومن ثم القدرة على التجديد، ورصد أمين لحركة التغير في المجتمع. فالأدب والفن هي مجسات مهمة وخطيرة لا يمكن لأي حركة تنشد تغيير وتطوير المجتمع الإستغناء عنها أوعزلها تحت أي مبرر كان، وأن ما تقوم به بعض الدراسات الإجتماعية لا يبتعد كثيراً عما تختبره فنون السرد في هذا المجال. والحق يقال بأنك قد تصادف وجود بعض الشذرات الفنية والأدبية في صفوف هذه التيارات، ولكن هي في أغلبها عبارة عن مبادرات واجتهادات فردية.
– لا يفترض أن تكون عملية تضمين البرامج الثقافية للفن والأدب مجرد نزوة أو هواية أو إجتهاد فردي، لأن الأدب والفن يمتلك القدرة على الغوص في النفس البشرية والبحث في مكنوناتها ومحاولة فهمها وتسليط الضوء على واقعها المعاش بروح عالية من الحب والصدق. وهي لا تقل ثورية وأصالة عن أي مقطع فلسفي أو عقائدي يتم حفظه وتداوله، ومن خلال أدوات الفن والأدب نستطيع تناول ومعالجة أي قضية سياسية أو اجتماعية مهما بلغ تعقيدها بشكل فني رفيع يساهم بتسليط الضوء على هذه المشكلة أو تلك، ويدفع الى التفكير في الكثير من الصيغ والأساليب الجديدة للتعامل معها على المستوى الفردي والمستوى الجماعي.
– وهناك نقطة مهمة، وهي أن الفن الحقيقي لا يقبل النفاق والدجل والتطبيل، والنتاج الذي يقبل ذلك لا يمكن أن يطلق عليه فناً "حقيقياً" أبداً. ولهذا فإن وجود هذا الفن الحقيقي سوف يعني وجود مساحة من الحرية، حرية التعبير عن الرأي، حرية التفكير، حرية الإعتقاد، وحرية النقد للأفكار والمعتقدات والممارسات التي يتبناه هذا الحزب وتلك الحركة، وإن انعدام مثل هذه المساحة من الحرية قد يكون مؤشراً على تفشي روح التوجه الواحد، والفكر الواحد، وباختصار سيادة الروح الديكتاتورية.
– من المؤكد بأن الأحزاب والحركات والتيارات صاحبة المشاريع السياسية لا تستهدف شريحة واحدة، فهي ليست نقابات، بل يفترض بها أن تضم كل أبناء وبنات المجتمع، والفن هو الوحيد القادر على مد جسور التواصل والتفاعل مع كافة طبقات المجتمع، السرد يتواصل مع من يحبون القراءة والكتابة والتحليل، والسينما تحول السرديات الى نصوص بصرية توصل أفكارها ومعتقداتها بشكل يناسب الكثير من المستويات، والمسرح بدوره يستطيع محاكاة شرائح من مختلف الأعمار والتوجهات الفكرية والثقافية .
– وكعادة أي مصدر ثقافي فهو يؤثر ويتأثر بمن وبما حوله، فحتى وإن كانت قيادات هذا الحزب أو تلك الحركة من تلك النوعية الكلاسيكية المشككة في كل اختلاف مع أفكارها وتصوراتها واعتباره نوعاً من التمرد أو التجاوز اللامبدئي (من وجهة نظرها) فإنها مع الاعتياد على التواصل والحوار تبدأ النفوس بالهدوء والقناعات في التغير لترى بأنه ليس كل اختلاف في الرأي معها هو عداء لها ولأفكارها، يستهدف تجاوزها أو تدميرها والقضاء عليها، بل إن هذه الإختلافات جديرة بالرعاية والإهتمام، لأنها سوف تسهم بكل تأكيد في إحداث المرونة الفكرية والثقافية في الحركة وتبعدها عن حالة التكلس والتبلد والغباء والتعصب الثقافي.
– الفنون والآداب تتطلب الحوار وإبداء الرأي، وهذا يتطلب الوعي الثقافي والمعرفي وفن التواصل بالإضافة الى المتابعة والقراءة الدائمة والمتجددة حتى لا تصدأ وتتحجر ثقافة هذا الإنسان، ومن خلال هذه الأجواء يمكن فرز الشخصيات ذات النفع لنفسها ولمجتمعها وللتيارات التي تمثلها، فإن استطاعت مواكبة الحركة والتغيرات وإلا فإن التقاعد أكثر راحة وأماناً لها وللحركة التي ينتمي أو يحسب عليها.
– التعبير عن الأفكار والمعتقدات عبر الفن والأدب يوفر صيغاً وأساليب تختلف عن الصيغ التقليدية التي تتبعها الكثير من الأحزاب والحركات التي اعتادت على إجترار احداث التاريخ، ومعاملة التراث بنوع من القدسية و الطهرانية التي لا تقل عن تعامل وتصورات التيارات الدينية والسلفية للموروث الديني بما له وما عليه، دون نقد وتنقيح. وهنا تتشابه هذه الأحزاب والتيارات في مواقفها الثقافية المتجمدة والمعادية لحركة التطور في المجتمعات، ويصل ببعض من يصنفون أنفسهم بالتقدمية والاشتراكية بأن يعتبروا الخروج على بنية القصيدة الشعرية التراثية بأنه خروج على ثوابت الأمة ومرتكزاتها، وأنه يصنف في خانة التآمر على ثقافة الأمة وهدم أو تشويه شخصيتها التاريخية والحضارية.
– إن الإهتمام بالإبداع الفني والأدبي لا يعني أن تتخلى تلك الأحزاب والتيارات عن مشاريعها وبرامجها وشعاراتها وخططها، ولكنه دعوة بأن لا تخلو برامجها الثقافية من الإهتمام بل الإيمان بالفن والأدب، ليس من باب المسايرة لدرء تهمة التعصب أو التخلف والمعاداة للثقافة والأدب والفن، ولكن من باب القناعة والإيمان بما تحمله هذه الفنون من قدرات جمالية وتأثيرية بعيدة الأثر والعمق في قلوب وعقول الناس، حيث أن الأيدلوجيا والشعارات تذوي وتذبل وتسقط مع سقوط المشروع السياسي، ولكن ما تحمله روح الفنون من تأثيرات وإيحاءات يبقى إلى أمد طويل.
يا ترى هل فات الأوان على الكثير من الأحزاب والحركات السياسية مراجعة الذات أم أنه لا زالت هناك فرصة لإعادة الحسابات وتغيير أساليب الصيغ والتعامل مع الجماهير؟