أنساب البشر وكراماتهم المهدورة… من لها؟
غسان الشهابي
كان الخبر الوارد في وسائل الإعلام مساء السبت بتصريح النائب العام إسقاط الاتهامات عن 334 متهماً في قضايا إبداء الرأي من غير المتهمين بجرائم أخرى، أمرٌ، وإن تأخر كثيراً جداً، إلا أنه أتى لينعش بعضاً من الآمال في عودة التعقّل والتريث والتبصّر إلى الواقع البحريني، بعد أن عصف به ما عصف بالبلاد والعباد من تسارع دراماتيكي في الأحداث، والتي أدت إلى ما لا يغيب، وما لا يحتاج إلى شرح، فالكل تأثر بها، وتراوحت المواقف والزوايا التي وقفها كلٌّ منا، ما في ذلك من ضير لو بقي الأمر في إطاره السياسي المسموح، ولكنه زاد وطغى، وخرجت الأوضاع عن السيطرة، وانبرى من انبرى مهاجماً ومدافعاً، وخائفاً ومخوِّفاً، حتى بات الحليم حيراناً إلا من رحم ربي.
فالذي يعيش في وسط الناس، وليس منعزلاً عنهم في أطر جغرافية وعملية محددة الحركة؛ يستطيع تلمّس كم الألم الذي مسّ عدداً من الأفراد الذين كان يعبّرون عن آرائهم الطبيعية، وحقوقهم المشروعة في التعبير عمّا يرونه حقاً لهم. وإن تطرف البعض وخرج عن سياق القانون الذي يجرّم النشر بأشكال معينة متضمنة القانون (47) للعام 2002، والخاص بالطباعة والنشر، فإن القانون هو المرجع الأساس في هذه القضية، وليست الأهواء، وما نحب أو نكره، ولا كذلك الحفر عميقاً في النوايا التي يحملها الشخص ومقاصده. لأن الكثير من التعبيرات التي يتداولها الإعلام نقلاً عن الجهات المسؤولة كانت تحمل في طياتها الكثير من التأويلات التي يمكن أن تستخدم في أيٍّ من الظروف، وتحت أيٍّ من الذرائع كالتحريض على كراهية النظام. فلفظ “كراهية” من الألفاظ المطاطة التي يتفاوت فهمنا لها، فما أعتبره من الألفاظ تحريضاً على الكراهية يراه آخرون أنه لفظ قاس، ولكنه لا يرقى إلى هذا الأمر، وما التوصيات التي خرجت بها لجنة تقصي الحقائق، ومنها ما يتعلق بالرأي العام، وهي الأساس في تحريك عدة ملفات اليوم، إلا واحدة من نتائج هذا الموقف غير الواضح من قضايا الرأي العام بالمعايير الدولية التي كان لابد من الأخذ بها في قضية حساسة كهذه، وهي أيضاً من القضايا التي كانت قادرة على “تنحيف” تقرير بسيوني لو أن الأجهزة الرسمية قامت بها بدءاً بالقراءة الدقيقة للقانون لتفصيل القضايا التي تقع بواسطة النشر، وليس كل من انتقد تصرفات جهات معينة، أو أشخاص معيَنين لم ينص القانون صراحة أو مداراة بحصانتهم من النقد، يُعتبر خارجاً عن مساق إبداء الرأي في إطاره القانوني. إذ أنه متى ما أحس المسؤول الموجه له النقد أن الأمر خرج من إطاره المهني ودخل في مسألة القذف الشخصي؛ أمكنه ذلك من رفع قضايا رد اعتبار على من أساؤوا استخدام هذه الحرية، من دون أن يحمَّل القانون ما لا يُحتمل، ويفسَّر بغير التفسيرات التي وُضعت له، وتتم قراءاته بنظارات متفاوتة النقاء والدقة والصقل.
إن الخروج الأول من هذه التفصيلة في المشهد السياسي العام تقول إن القانون ربما يكون حمّال أوجه، وأنه من الحكمة أخذه على الوجوه الحسنة منه، والأكثر تعاطفاً واستشعاراً بحسن النوايا بدلاً من الأخذ بجوانبه المظلمة، فما بين الدولة والشعب يعمُر ويكبر إن لم تتوافر ميكانيزمات الشك والريبة والدسائس والمصالح الشخصية.
وفي هذا السياق أيضاً، فإن الدرس الذي يمكننا الخروج به – إن لم نكن ننوي تكراره تالياً – هو أننا، شئنا أو أبينا، جزء من هذه المنظومة العالمية التي رأت واحدة من مكوناتها (اللجنة البحرينية المستقلة لتقصّي الحقائق)، والتي خاضت الكثير من التجارب العالمية في هذا المضمار لسنوات طويلة، أن كيفية معالجة قضية إبداء الرأي العام لم تكن صحيحة، وأن علينا التأقلم مع القوانين العالمية المتحركة والمتغيرة والمتطورة والمسقطة للكثير من التابوهات إن أردنا أن نكون جزءاً من هذا العالم. أو بالأحرى، إن لم نكن نريد أن نكون مجرد جزء، بل جزءاً يشار إليه بالإكبار والفخار لأنه يحتل مراتب متقدمة على مستوى الحريات العامة وإبداء الرأي بشروطه العالمية.
وهذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه في شأن آخر متعلق بنا، وهو أن إبداء الرأي ليست مسألة مرهونة بالمؤسسة الرسمية وحسب، بل إنها اليوم، وبفعل الإنترنت وتطبيقاتها المختلفة، والتكنولوجيا المختلفة، صار يصعب حصاره وحصره والتعامل معه، فالكثير من المبادرات اليوم في أيدي الناس، حتى وإن قيل أن هناك جهات تقف وراء هذه الفرق وتموّلها وتمدّها بالأخبار والمواقف أولاً بأول. فإن قبلت المؤسسة الرسمية بالالتزام بقواعد التعبير الحر عن المواقف؛ فإن المشكلة اليوم في الجهات أفلتت خيولها الجامحة من الإسطبلات بعد طول انحباس، وليس هناك مدى أو سور يجمع هذا الشتات من الجياد. فلقد أطلق الناس لأنفسهم العنان من رغبة في الانتصار لأي من الأطراف التي يقفون وراءها أو تقف وراءهم، وقد نيل من أناس كثر من حيث السمعة والكرامة والشرف، ووُصموا بأقذع الألفاظ وأشنعها، ويمكن لأيّنا أن يبحث في الفضاء الإنترنتي عن أيّ من الشخصيات ليجد أطنان السباب الموجهة إليه شخصياً وليس نقداً لموقف سياسي، أو معارضة لتصريح. فقد انحدرت الأخلاق في هذه الأزمة إلى هاوية سحيقة، وتلوثت ألسن عدد كبير من البشر بهذا التهاون الأخلاقي والديني، ولا يمكن تنظيفها اليوم أو الحد منها في الغد إلا إن قُدِّم القاذفون والمعرّضون والقادحون، في شرف الناس وأنسابهم إلى القانون في دولة تطمح أن تثبت نفسها في وسط أمم تقول بأن القانون هو مظلتها التي يتفيّأ الناس تحتها جميعاً.
هذه الخطوة لا تحتاج إلى لجنة مستقلة وتوصيات واجتماعات وشهادات، إذ أنها واضحة للعيان، ومقروءة للجميع، وقد حذّرت منها بعض الجهات الرسمية على استحياء في فترة سابقة، ودعت إلى الابتعاد “عمّا يثير النزعات الطائفية، ويذكي نار الفتنة ويعمل على تقويض اللحمة الوطنية…الخ الخ”. بيد أن هذه المواقع معروفة، ومديروها من السهل الوصول إليهم عبر التتبع، والاحتجاج بأنها شقّت الصف الاجتماعي، وشككت في الأنساب، أكثر من أن يتوافر لمن أراد ذلك، وأكثر صراحة من كثير من التعبيرات المفتوحة التي أدانت من أدانت، ولن تبقى إلا خطوة تعليق الجرس، حتى تعود نظافة اللسان الإلكتروني إلى من لا يردعه خلقه وتربيته.
البلاد:الأثنين 26 ديسمبر 2011