د. محمد صالح الهرماسي
من بين كل القيم السامية التي صنعت وتصنع مجد الإنسان تبقى لقيمة الشهادة مكانة خاصة في العقول والقلوب، ذلك انها تختصر قيمة الإنسان نفسه باعتباره المخلوق المكرّم والكائن العاقل. ولما كان الإنسان كذلك فإنّ وجوده لا يستقيم بغير الكرامة والعقل وهما منبع كل القيم ولاسيما الحرية أحد الشروط الجوهرية لتحقيق إنسانية الإنسان.
ومنذ القديم كانت الشهادة هي سلاح الإنسان الأقوى في مواجهة جبروت التسلّط على كيانه ومصادرة حريته وسلب انسانيته. وكانت التضحية بالنفس، أي بأغلى ما يملك الإنسان، هي الطريق إلى التحرر والانعتاق.
إن تاريخ الإنسانية هو بلا مبالغة تاريخ نضاله في سبيل حريته وكرامته. ومنذ عصر العبودية القديم وحتى عصر الهيمنة الأمريكية اليوم، وما بينهما من عصور الغزو والاستعمار القديم والجديد، كان هدف التحرر الإنساني والوطني هو الهدف الأسمى الذي اقترن بالشهادة التي كانت ومازالت وستبقى نسغ النضال والمقاومة من أجل ذلك الهدف.
ويحفل تاريخنا العربي الإسلامي بكثير من الوقائع والأحداث المهمّة التي تبيّن أهمية الشهادة ودورها الحاسم في تحقيق الانتصار على العدو في المعارك والحروب. كما أنّ الدين الإسلامي الحنيف قد أعلى من مكانة الشهيد وأولاه منزلة خاصة "ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون".
وإذا جاز لنا اليوم أن نفخر بأننا قد خرجنا أحراراً من كل موجات الغزو والاحتلال والاستعمار التي تعاقبت على وطننا العربي منذ القديم ولاسيما الحملات "الصليبية" والاحتلال العثماني والاستعمار الأوروبي، وإذا كنّا نفخر اليوم بأنّ جماهيرنا العربية ومقاومتها الفذّة مصمّمة على دحر الاحتلال الصهيوني وإسقاط الهيمنة الأمريكية، فلأنّ شهداءنا الأبرار هم الذين صنعوا لنا بدمائهم أكبر الانتصارات، وهم الذين يضحّون اليوم بأرواحهم في سبيل تحرير فلسطين ويرعبون العدوّ بما يمتلكونه من ايمان عميق بالقضيّة، وقدرة هائلة على الصمود واستعداد دائم للشهادة ما يجعل كل أسلحته المتطوّرة تبدو عاجزة في وجه مقاومتهم وتصميمهم الخلاّق.
نعم إذا كان لنا أن نرفع رؤوسنا بين الشعوب والأمم فلأننا أمّة الشهداء بامتياز. ومن واجب الشهداء الذين صنعوا أمجادنا، من واجبهم علينا أن نظلّ أوفياء لأهدافهم التي استشهدوا في سبيلها وألاّ نحيد عنها قيد أنملة. وإذا كان ثمّة للأسف بيننا، من أذناب الامبريالية والصهيونية حكاماً ونخباً تابعة، من يتنكّر لدمائهم، ويتنازل عن الحقوق الوطنيّة والقومية التي دافعوا عنها بأرواحهم، وإذا كانت أبواق هؤلاء التابعين الخونة لا تخجل من مهاجمة المقاومة والشهادة بذريعة الانحياز لثقافة الحياة ضدّ ثقافة الموت! فإننا نقول لهم: هل كنتم ستوجدون في هذه الحياة التي تمجدّونها الآن لولا تضحيات الشهداء الذين حرروا الأوطان التي تنعمون فيها الآن. وماذا سيكون مصير أبنائكم إذا لم يوجد اليوم من يضحّي في سبيل تحرير الأرض والدفاع عن الوطن ومقاومة الأعداء…
في الحقيقة المعركة المفتعلة بين ما يُسمّى "ثقافة الموت" وما يسمّى "ثقافة الحياة" ليست سوى محاولة بائسة لطمس المعركة الحقيقية الدائرة بين ثقافة المقاومة والشهادة وبين ثقافة الاستسلام والخيانة.
موقع ثوابت عربية- 08 مايو 2012