هذه الرسالة بحاجة الى وقفة لتأمل ما تعنيه بالضبط.
نعني الرسالة التي وجهها سبعة من المديرين السابقين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية الى الرئيس الامريكي اوباما يطالبون فيها بوقف التحقيقات التي تجريها وزارة العدل في ممارسات التعذيب في عهد الرئيس بوش واغلاق هذا الملف نهائيا.
لقد قدموا سببين اساسيين لتبرير مطلبهم هذا:
السبب الأول: ان هذه التحقيقات في جرائم التعذيب سوف تقيد حرية وعمل عملاء الوكالة وتجعلهم يترددون في أداء مهامهم.
والسبب الثاني: ان التحقيقات سوف تضر العلاقات بين امريكا والدول التي ساهمت سرا في عمليات استجواب للمعتقلين المتهمين بالارهاب. وهم يشيرون هنا الى ما هو معروف منذ زمن من قيام الولايات المتحدة بنقل معتقلين الى دول اخرى كي يتم تعذيبهم.
لنلاحظ ان التحقيقات التي يطالبون بوقفها واغلاق ملفها نهائيا تتعلق بجرائم تعذيب بشعة جرت في المعتقلات والسجون الامريكية، وكان ضحيتها الآلاف من المعتقلين من افغانستان والعراق ومن مختلف انحاء العالم. وهؤلاء في اغلبيتهم الساحقة ابرياء لم توجه اليهم أي تهم أصلا.
ولنلاحظ ان هذه الجرائم التي تعرف العالم على بعضها فقط هي انتهاك وحشي للقانون الدولي والمواثيق الدولية، وللدستور والقانون في الولايات المتحدة، وانطوت على ممارسات همجية رهيبة كتلك التي شاهد العالم بعض صورها في ابوغريب في العراق أو في جوانتنامو. فما بالك بما جرى في السجون السرية.
ومعنى هذا ان مديري المخابرات الامريكية هؤلاء برسالتهم هذه، وفي سبيل ما يعتبرون انها مصلحة لعملاء المخابرات أو مصلحة امريكية كما يفهمونها، لا يجدون أي حرج في المطالبة بإلقاء القانون الدولي والمواثيق الدولية في سلة القمامة واعتبار انها غير موجودة اصلا. وهم لا يترددون في الدعوة الى خرق وانتهاك الدستور والقانون الامريكي الآن ومستقبلا. كما انهم يطالبون بمنح الحصانة لمن يرتكبون جرائم التعذيب هذه في كل ومطلق الاحوال. ليس هذا فحسب، بل انهم يريدون التستر على جرائم الدول الأخرى التي شاركت في الجرائم الامريكية.
هذا منطق همجي. لكنه كما نعلم كان هو المنطق الوحيد السائد طوال حقبة بوش السوداء. وقد كانت جرائم التعذيب هذه ترتكب، كما ثبت، بناء على أوامر صدرت من اعلى القيادات الامريكية.
والعودة اليوم الى طرح هذا المنطق بهذا الشكل السافر ومن دون أي خجل، له معان كثيرة لا بد من التوقف عندها.
يعني هذا انه في مواجهة ما يحاول الرئيس اوباما ان يفعله من اعادة قدر من المصداقية الى صورة امريكا والدور الامريكي ومحاولته اضفاء صبغة انسانية ولو نظريا على السياسة الامريكية، هناك بالمقابل تيار قوى في أمريكا يرفض هذا التوجه، ومازال متمسكا بكل السياسات والممارسات الاجرامية في عهد بوش.
من جانب آخر، هذه التحقيقات التي تجري في جرائم التعذيب هي خطوة محدودة جدا بالنظر الى جرائم الحرب والابادة التي ارتكبها بوش وأركان ادارته في العالم. وقد كان الأمل معقودا في أمريكا وخارجها على ان تكون التحقيقات خطوة تفتح الطريق امام محاكمة اركان الادارة السابقة على جرائمهم. لكن اذا كانت هذه الخطوة المحدودة تواجه بهذا الرفض السافر، فمعنى هذا في نفس الوقت ان هذا التيار سوف يقاوم بضراوة أي محاولة لفتح ملف محاكمة هؤلاء المجرمين الكبار.
من الصعب تصور ان الرئيس أوباما سوف يقبل مطلب هؤلاء باغلاق ملف التحقيقات في جرائم التعذيب. فقبوله يعني انه لا مصداقية على الاطلاق لوعوده التي اطلقها ببدء عهد جديد في السياسات الامريكية وفي نظرتها للعالم.
ولكن في كل الاحوال من الواضح ان الوقت مازال مبكرا كي يرى العالم تحقق الآمال التي علقها على ادارة اوباما في ان يشهد مواقف وسياسات وممارسات امريكية انسانية تلتزم بالقانون الدولي وتحترم حقوق الانسان والدول.
من الواضح ان عهد بوش الاسود ترك ارثا همجيا مترسخا مازال الكثيرون اوفياء له.. هؤلاء من امثال مديري المخابرات الذين كتبوا هذه الرسالة شعارهم.. فلتذهب العدالة الى الجحيم. وهم لا يخجلون من ان يقولوا هذا علنا وبشكل سافر بلا ادنى خجل.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.