في كل مرة تتغلب على بعضنا مشاعر الاكتئاب والقنوط بسبب حالة هذا القطر العربي أو ذاك المفجعة نسارع لمشاهدة شباب الثورات العربية على شاشات التلفزيون وللاستماع إليهم. في وجوههم البريئة المستسلمة ببطولة الشهادة لكل ما قد تأتي به الأقدار،
في نبرات أصواتهم الممتزجة بالشجاعة والثقة والعزم والإيمان بالقضية التي يحملون فوق أكتافهم، في بريق عيونهم المتصالحة مع الموت، مثلما هي متطلًعة نحو أفق النصر المبين، في تواضع محياهم وهم يختصرون الكلمات الخجولة المباشرة… في كل ذلك، وأكثر من ذلك مما لا يمكن وصفه من مشاعر، يكمن الأمل والمستقبل الواعد والأحلام الكبيرة. عند ذاك تهدأ النفس وتعود الثقة ويمتدُ أفق المستقبل إلى اللانهائي من الطموح والسمو.
هؤلاء الشباب العرب، المعَمدون بالدم وغير الخائفين، لا ينطبق عليهم قول الفيلسوف الألماني آرثر شو بنهاور من "أن فرح وحيوية الشباب يعود جزئياً إلى حقيقة أننا ونحن نصعد هضبة الحياة لا نرى الموت أمامنا، فالموت يقبع في قاع الجهة الأخرى من الهضبة التي لا نراها"، فشباب الثورات العربية يرون الموت في ساحات الحرية والتغيير، ينتظرهم ويتهددهم في كل لحظة، ومع ذلك يصعدون هضبة النضال لتحدي الظلم والاستبداد وتحقير الكرامة الإنسانية، ووجوههم تنضح بالبهجة والحيوية التي بهرت شو بنهاور من قبل وتبهر العالم كله الآن. هم كزهور ربيعهم الذي بدأوه لازالوا يتفتحون ويعبقون ولا يذبلون.
ليس المقصود كتابة ترنيمة المديح لشباب العرب، فالذي يرضى أن يموت وهو قرير العين لا يحتاج لقصائد المديح والتصفيق. المقصود هو التذكير بأن هكذا مشهد يستحق أن نتعامل معه، نحن – الشعب العربي وقوى المجتمع المدني والقادة المسؤولين- بأمانة ومساندة مسؤولة وتحفيز ناصح صادق.
التعامل الأول يتمثل في قول شهير للرئيس الأمريكي هوفر من أن الكبار يقررون الحروب، لكن الشباب يدفعون الثمن دماً ودموعاً.
وفي حالتنا العربية فان الكبار من الأجيال السابقة هم الذين ارتكبوا الأخطاء والحماقات وأوصلوا الأوضاع العربية الى ما وصلت إليه من سوء وتقهقر يدفع ثمن محاولة إخراجنا منها، بتضحيات جسام، شباب الثورات. ولذا فليس من حق الكبار أن يتفرجوا على المشهد، بل ويضعفوه من خلال وجلهم غير المبرر، وشكهم في وصول الثورات إلى أهدافها المعلنة، وتشجيعهم المتعبين على الوقوف في منتصف الطريق. وهكذا يساهمون، بقصد أو بغير قصد، في زرع بذور اليأس والاسترخاء التي تنشرها الدوائر الصهيونية والاستعمارية والرجعية المذعورة. سلامة الثورات العربية ليست من مهمات هؤلاء الشباب الأبطال فقط وإنما أيضاً من مهمات الذين أوصلوا مجتمعاتنا إليها بغباء وقلة حيلة وانتهازية. جيل الكبار يجب أن يطهر نفسه ويغسل الدم الذي يغطي يده فلعل لعنة السماء تتوقف عن ملاحقته إلى يوم الدين. ثاني التعامل هو أن الثورات تحتاج الى أن يسبقها ويرافقها إلى نهاياتها حوار عام جاد مثمر متوازن وعقلاني. في المجتمعات العربية يندر الحوار وتكثر المعارك الدنكوشوتية الوهمية والمماحكات الصغيرة المبتذلة. لكن للثورات قدسيتها التي تستدعي السمو بها من خلال حوارات الجسم العام في المجتمعات، حوارات تتصف بالموضوعية وعدم الانحياز ونبل المقاصد. ولا يوجد مقصد أنبل في أيامنا هذه، في أرض العرب كلها، من إبقاء الحوار خارج حلبة الطائفيين الموتورين، والموالين للقبيلة أو العسكر أو الحزبية المتخلفة، وانتهازي الفكر والايديولوجيا والتهويمات العقائدية المنغلقة على نفسها.
إذا كانت ثوراتنا تريد إيصال مجتمعاتنا إلى ممارسة العدالة فإنها تحتاج، كما يؤكد الفيلسوف أستاذ الاقتصاد الهندي امارتيا سن في كتابه "فكرة العدالة"، الى ممارسة العقلانية في حوار عام تكون مركزيته السياسة الديمقراطية بصورة عامة وتحقيق العدالة الاجتماعية بصورة خاصة. إن تونس ومصر وليبيا، حيث النجاحات المبهرة، تستطيع ضرب المثل لنا جميعاً. شبابهم ضحُوا وماتوا من أجل أن تكون الحوارات ملاصقة، بل ومندمجة مع ديمقراطية السياسة والعدالة الاجتماعية، وذلك من أجل محو الحقارة والمهانة والظلم واليأس من حياة الإنسان العربي.
المنطلق الثالث هو القبول العقلي والعاطفي والمبدئي للحقيقة الاجتماعية من أن التعددية الدينية والمذهبية واللغوية والعرقية وغيرها هي من سمات المجتمع العربي. لكن منطلق الحوار الأول ليس من هذه الظاهرة الاجتماعية المليئة بالمشاكل وبالنجاحات، ولكن من الظلم والاستبداد والفساد والتخلف وغياب شتى أنواع العدالة، وجميعها تشمل بظلامها الحالك كل مكونات المجتمع وتدخل الجميع في جحيمها. كل مكون اجتماعي يجب أن يتكلم باسم الجميع ومن أجل الجميع وفي سبيل أهداف الجميع. ولو استمع الموتورون للكلمات البسيطة والأهداف النبيلة الواضحة التي يرددها شباب الثورات صباح مساء كل يوم لخجلوا وابتعدوا عن اللغط الذي يسمعه الإنسان من غير أولئك الشباب، من أصحاب الهمزة اللمزه، من المخرفين، من كارهي الحياة والخير لغيرهم.