عوني صادق
بعد أيام تحل الذكرى المئوية ل «وعد بلفور»، الوعد الجائر الذي بموجبه أعطى من لا يملك من لا يستحق. هذا «الوعد» البريطاني إلى جانب الزعم الصهيوني عن «وعد إلهي» ، كما جاء في التوراة المحرفة، أعطيا الحركة الصهيونية فلسطين لتكون «وطناً قومياً لليهود»، وعليهما قامت كل الأكاذيب وكل عمليات التزوير التاريخية التي سوغت للإمبريالية البريطانية أولاً ثم للإمبريالية الأمريكية والغربية عموماً جريمة اغتصاب وطن من أصحابه الأصليين وإقامة دولة احتلال غير شرعية كانت سبباً في كل ما وقع من حروب في المنطقة وتهديد لأمن وسلام العالم.
وبسبب افتضاح كذب الرواية الصهيونية أمام شعوب العالم، واتساع ممارساتها المخالفة لكل الشرائع وحتى المواثيق الدولية التي يفترض أنها قامت عليها، وبسبب خوف بعض الصهاينة الذين يزعمون أنهم يعارضون هذه السياسات التي اتسعت وصارت رسمية بعد وصول الأحزاب الدينية المتطرفة وأحزاب المستوطنين، من أن تؤدي إلى انهيار وزوال الاحتلال، برز من يحاول أن يتظاهر بالموضوعية بل والاعتراف ببعض الحقوق للفلسطينيين. والمحاولة هي في التخلي عن «الأساس الديني» لشرعية الاحتلال والزعم بأنه يستمد شرعيته من «أسس قانونية وتاريخية وعملية» وضعها وأقرها وأجمع عليها «المجتمع الدولي». وفي هذا المجال يأتي مقال الكاتب الصحفي الصهيوني «الإسرائيلي» شاؤول أرئيلي الذي نشرته صحيفة (هآرتس- 19/10/2017)، وهو يستحق وقفة متأنية تظهر كيف يصل التزوير إلى درجة الاحتراف!
كل من اطلع على تاريخ الحركة الصهيونية ولو في الحد الأدنى يعرف أن الاحتلال الصهيوني قام على أساسين: أساس توراتي يعتمد «الوعد الإلهي» المزعوم وهو ما يقيم «علاقة روحية» مزورة بين اليهود وفلسطين. والأساس الثاني «أساس قانوني» أرسته الدول الإمبريالية بقيادة بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، وكرسته الدول نفسها من خلال «عصبة الأمم» ثم «الأمم المتحدة». وفي الوقت الذي ضعف «الأساس التوراتي الديني» على المستوى الدولي، وقوي داخل «إسرائيل» بوصول الأحزاب الدينية المتطرفة إلى السلطة، نرى شاؤول أرئيلي يطالب بالتخلي عن هذا الأساس. وهو يقول بهذا الخصوص:
«في التوراة كتب أن الله وعد شعب «إسرائيل» بأرض «إسرائيل». هذا الادّعاء يتردد كثيرا على ألسنة وزراء وأعضاء كنيست. وحسب أقوال الحاخام غورين أي قانون قومي أو دُولي لا يستطيع تغيير موقفنا وحقوقنا» إن حكم هذه الأرض، حسب التوراة، هو أن أرض «إسرائيل» تحت الحكم اليهودي بشكل كامل وتسري عليها السيادة، الملكية يهودية. وهو يرى أن «الجهود المستثمرة من قبل وزراء حكومة «إسرائيل» لشطب التاريخ القانوني في إنشاء دولة «إسرائيل» هي جهود كبيرة. وهم يهدفون إلى استبدال القوة الدُّولية لحق الشعب اليهودي في دولته في بلاده بذرائع دينية ومسيحانية تنفي أي تنازل. ويرى أيضا أن» وجود القومية اليهودية لا يقتضي الإيمان بالله، وتطبيق تقرير المصير للشعب اليهودي في وطنه ليس بحاجة إلى الوعد الإلهي».
هكذا يخطو أرئيلي خطوته الأولى في عملية التزوير، إنه ينفي حاجة «إسرائيل» إلى «الوعد الإلهي» والأساس التوراتي لأنه ببساطة لم يعد مقبولاً في القرن الواحد والعشرين. بالطبع هو يعرف أنه كان «الأساس الوحيد» حتى منتصف القرن العشرين، وهو لن يرفضه في القرن الواحد والعشرين لو كان ما زال مقبولا! وطالما أنه لم يعد مقبولا فلماذا التمسك به خصوصاً في وجود «أساس» يعتبره أقوى ومقبولاً لدى «المجتمع الدولي». ويتجاهل أرئيلي أن اليهود قبل «وعد بلفور» لم يكونوا سوى «طائفة دينية» غير مرغوب فيها، وأن خلفيات «وعد بلفور» كانت مشروعا إمبريالياً في المنطقة يلعب فيه «الكيان» دوراً وظيفياً يخدم المصالح البريطانية والإمبريالية، وليس لأن بريطانيا وأوروبا اكتشفتا «القومية اليهودية» أو أن هذه الطائفة «شعب يحق له تقرير المصير»!
ويؤكد أرئيلي أن الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة تتمسك ب «بالوعد الإلهي» لأنها لا تريد التنازل عن أي جزء من فلسطين أو تعترف بحق للفلسطينيين، وهذا صحيح. يقول أرئيلي: إنه «يعطي وسادة مريحة لمن يسعون إلى التهويد»! ويرى أن «الادّعاءات الإيمانية عديمة الصلاحية السياسية والقانونية في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، تضعضع الأسس القوية والثابتة للرواية الصهيونية التي يقبلها المجتمع الدولي منذ مئة عام».
لكن الأحزاب «اليسارية»، كحزب العمل وزعيمه الجديد آفي غباي، لا تختلف في موضوع التنازل عن الأرض عن تلك الدينية والمتطرفة باعترافهم من خلال تصريحاتهم. وبعضهم يتنازل عن جيوب تظل تحت السيطرة «الإسرائيلية».
المسألة إذاً هي تخل عن أساس عديم الصلاحية، هو في الأصل غير شرعي لأنه استند إلى أسطورة حولتها القوة الجائرة إلى «مسوغ» لمشروع استعماري لاغتصاب وطن، فاقتضى البحث عن مسوغ «صالح ومقبول»!