محمود القصاب
تتحدث بعض كتب التراث العربي عن الأعرابي الذي عاش أيام «الفتنة الكبرى»، حيث تصفه الرواية بأنه كان يجسّد قمة الانتهازية والوصولية والسعي وراء مصالحه الشخصية دون الاكتراث بما يمكن أن تجلبه مآربه الخاصة على المجتمع والمحيطين به. والسبب أن هذا الأعرابي ليس لديه رادع أخلاقي يمنعه من التلون والتقلب حسب تغير الظروف ومقتضيات المصلحة، لذلك يُشاع عنه أنه كان يقول دائماً «الصلاة وراء علي أتم، والأكل مع معاوية أدسم، والوقوف على الجبل أسلم».
طبعاً هذا القول على درجة من الوضوح، لأنه يشرح ويفسّر نفسه، لذلك لسنا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الشرح والتعليق، وهو قولٌ يكشف عن ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع، وأي زمن، وهي «الوصولية» التي يتصف بها بعض الناس من أولئك الذين يمتلكون القدرة على التلون والتشكل مثل الحرباء، والتخفّي وراء يافطات مخادعة وبراقة لدر الرماد في العيون، والضحك بها على من تنطلي عليهم ألاعيب هؤلاء «الحواة». وهذه النوعية من الناس لا يقتصر وجودها على زمن محدد أو مكان معين، بل هي ظواهر وحالات اجتماعية تتكرر بأشكال مختلفة في أزمان وأماكن مختلفة.
حالنا اليوم مع بعض مدّعي الوطنية ومحترفي الدجل السياسي من بعض السياسيين والإعلاميين والطارئين على الصحافة، حال ذلك الأعرابي الوصولي، فمن بين مساوئ الأزمة التي عصفت ببلدنا وآثارها السلبية، إفراز هذه النوعية من البشر الذين صاروا اليوم بين ظهرانينا، يمارسون سياسات الخداع، ويلوكون شعارات التضليل، وينفخون في الوساوس والأباطيل، التي تدمّر وحدة نسيج المجتمع، ومحاولتهم البروز بمظهر الوطني المتفرّد الغيور على مصالح الوطن وحمايته من الآخرين «المتآمرين» و»الخونة»، في الوقت الذي يعرفون هم قبل غيرهم، ويعرف معهم غالبية أبناء هذا الوطن وكل من يعيش على أرضه، بأن كل هذا الطلاء والمساحيق التي تغلف سلوكهم، وتزيّن كتاباتهم، إنما تخفي وراءها شهوة التسلّط والاستبداد التي يغذّونها، ويستميتون في الدفاع عنها ويقاومون أي مواجهة معها، كما تخفي وراءها فتنة اجتماعية هوجاء، مدمّرة لأسس السلم الأهلي والتعايش الأخوي.
ليس مهماً بالنسبة إلى هذه الفئة الطفيلية الانتهازية حجم الأضرار والكوارث التي يمكن أن تلحق بالمجتمع والوطن، ولا تشكّل قيم الشرف والاستقامة والنزاهة لديها أية قيمة، كما إنها غير معنية بالانحياز إلى جانب الحق أو رفض الباطل، فكل ما يهمها هو إرضاء الذات، والحصول على مباركة وثناء شركاء «الهوى السياسي» ورفقاء «الهوس الطائفي». وليس خافياً أن مثل هذه المصالح والهواجس الشريرة عادةً ما تلجم وتخرس الألسنة إلا من قول الزور، وأكل السحت الحرام، كما إنها تشل الضمائر عن مناصرة الحق، وتعطل الفكر والتفكير عن رؤية العدل والإنصاف.
من هنا فإن العيون القابعة في رؤوس هذه النوعية من الانتهازيين لا يمكن لها أن تبصر الشهداء الذين يسقطون ضحايا للعنف لمجرد إنهم طالبوا بالحرية والعدالة والكرامة والمساواة في الحقوق والمواطنة. كما إنها لا يمكن أن تتحسس الألم وأوجاع أهل وذوي هؤلاء الشهداء الذين يباتون ويصبحون على حسرة فقدان أحبتهم وفلذات أكبادهم، كذلك لا تبصر ولا تقر هذه العيون وجود سجناء رأي ومعتقلين سياسيين، بل لا ترى غير «خونة» و»عملاء» و»انقلابيين» يستحقون أشد وأغلط العقوبات.
كما إنها لا تشعر بأي ألم، أو ينتابها أي أسف، لتلك الإجراءات القاسية والقرارات الظالمة التي يمكن أن تقطع أرزاق آلاف المواطنين وتلقي بهم على قارعة طريق العوز والفقر، بعد أن تحرمهم من مصدر رزقهم الوحيد. فكل هذه المشاعر والأحاسيس تحتاج إلى وجود قيم عليا ومبادئ سامية مثل العدالة والرحمة وحب الخير والتعاطف مع الآخرين، كما تحتاج إلى روح إنسانية تتجاوز ذاتها وتتعالى على ضعفها ونواقصها من خلال نبذ كل الغرائز الشريرة مثل الحقد والجشع والأنانية.
أين كل هذه القيم والمثل مما نراه ونلمسه اليوم في واقعنا الذي هو للأسف أحد نتاج أزمتنا الراهنة. ما نراه هو سلوك استفزازي وعدائي لشركاء الوطن والدين الذي يفوق كل وصف، وهو سلوكٌ يُمارَس بوعي كامل وبإرادة مسبقة دون أي رادع وطني وأخلاقي. أما الطامة الكبرى والمفارقة المؤلمة أن بعض هذه السلوكيات تتم باسم حماية الوطن والدفاع عنه، وبعضها الآخر يجري تحت أقنعةٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ، وكأننا في حالة حرب وعداء مع أعداء الوطن والدين.
والحقيقة أن الوطن والدين والمذهب براء من كل ما يجري تحت ستار الوطنية الزائفة والتدين السياسي النفعي والتمذهب المصلحي والوصولي، حيث يغيب العدل والحق وحب الخير، ويسود التعصب والتزمت اللذين يفضيان إلى كراهية الشقيق والقسوة عليه، وحرمانه من كل حقوقه الوطنية والإنسانية، فقط لأنه رفض أن يكون مواطناً من الدرجة الثانية، وخرج مطالباً بالعدل وتصحيح هذا الوضع المشين والمعيب.
إننا عندما نتطرق إلى مثل هذه النماذج ونسلط الضوء عليها في مثل هذا الوقت، ذلك لأننا نلحظ باستغراب ودهشة استمرار تصدّر بعض هذه النوعيات الوصولية للمشهد السياسي والإعلامي في البلد، دون أي وجه حق، وفي ظروفٍ يجتاز فيها بلدنا مرحلة صعبة ودقيقة تتطلب الكثير من العقل والحكمة، وتستدعي وجود كل المخلصين والخيّرين، وهم والحمد لله ليسوا قلة، لتجاوز الواقع السئ بدل الدفع به إلى مزيد من الانقسام، على يد تلك العناصر الانتهازية والاستفزازية، التي تمثّل اليوم العقبة الرئيسة التي تحول دون كسر حالة الجمود السياسي والتمزق الاجتماعي في البلد، لأن هذه المسألة الحيوية والمصيرية لا تمثل أولويةً عند هذه العناصر التي يهمها استمرار حالة الاحتقان والفرز الطائفي، كما يهمها استمرار الشروخ في المجتمع البحريني، واستمرار ونمو آليات الحقد والانتقام، لأنها وبكل بساطة هي نتاج هذه الظروف السيئة، التي تعمل على توظيفها بصورة دائمة لخدمة مصالحها الخاصة، وتمثل اليوم أحد أسباب وجودها ومصادر رزقها.
وهذا ما يؤكد ذلك الخيط الموصول والرابط بين «الانتهازيين» و»النفعيين» الذين يقتاتون من الأزمات، مهما اختلفت أزمانهم وتعددت أماكنهم، وتنوعت صورهم ومشاربهم السياسية والفكرية. فهناك دائماً ما يوحّد بينهم، وهو حبّ الذات والمصلحة الخاصة، ولا شيء قبلها أو بعدها، أما الوطن الذين يتشدّقون به، والتدين المزعوم والدفاع عن المذهب فليست سوى عناوين براقة تخفي وراءها الكثير من الزيف والشعارات المخادعة التي تطرب بعض الجهلة والمتخلفين وتراقص الحمقى الطائفيين.