أربعة ألغاز في محاكمة القرن
حمدي قنديل
على غير المتوقع، وفي مفاجأة قوبلت برضا شعبي عريض، دخلت محاكمة «مبارك» مرحلة الحسم، عندما طلب من النيابة العامة أن تبدأ مرافعتها في القضية لتتبعها مرافعة المدعين بالحق المدني، ثم مرافعة الدفاع عن المتهمين، وتحجز القضية بعد ذلك للحكم.. ولا يستبعد كثيرون أن يصدر الحكم
بعد أسابيع معدودة، خاصة بعد أن أعلن المستشار أحمد رفعت أنه قرأ أوراق القضية التي بلغت أكثر من 35 ألف صفحة ثلاث مرات، أثناء توقف المحاكمة في الشهور الماضية، بل إن هناك مصادر تشيع أن الحكم سيصدر في 23 يناير لاسترضاء أهالي الشهداء والمصابين وتفادى تصاعد الغضب في الاحتفال بعيد الثورة.
أقول من الآن إن هذه شائعة مغرضة تنال من القضاء، فهي تعني أولاً أن الحكم بحق المتهمين معروف سلفاً، وأنه سيكون قاسياً بحيث يرضى عموم الناس حتى إن تم نقضه بعد ذلك، كما أنها تعني أن توقيت صدور الحكم قد أملى على المحكمة بواسطة المجلس العسكري، بما يعني أن السلطة التنفيذية تتدخل في شؤون السلطة القضائية، الأمر الذي يشين الجانبين.. والمؤسف أن المحاكمة لن تنجو من هذا الاتهام كيفما كان الحكم الذي ستصدره ومهما كان توقيته، فلو افترضنا – على النقيض- أن الحكم قد تأخر صدوره شهوراً أو أسابيع، فسوف يعني ذلك في أذهان كثيرين أن هناك محاولات للمماطلة في إدانة «مبارك» وأعوانه، ولو افترضنا أن المحاكمة انتهت بالبراءة أو بإصدار أحكام مخففة، فسوف تروج الأقاويل بأن المجلس العسكري الذي ينتمي إلى النظام البائد يسعى لتبرئة رموز هذا النظام.
محكمة «مبارك» إذن في موقف دقيق للغاية، وربما تثير الظنون والريب في كل الأحوال، ولاشك أنها تدرك ذلك جيداً، وتدرك في الوقت ذاته أيضاً أن العبرة في إصدار الحكم بما يستقر في ضميرها وليس بما ينتظره الناس منها، إلا أنني أحسب أنه لابد لهيئة المحكمة، أيضاً من أن تأخذ في الحساب مدى ثقة الرأي العام في طريقة تسييرها للمحاكمة وإجراءاتها، إذ إن هذه الثقة هي التي سيتوقف عليها مدى قبول الناس للأحكام وقبولهم لتوقيت صدورها.. ورغم أن رئيس المحكمة المستشار أحمد رفعت حظي بتقدير من أطراف القضية جميعاً، فإن هناك ألغازاً من الضروري أن يعرف الرأي العام ما وراءها حتى يولي المحكمة ثقته كاملة.
أول هذه الألغاز، وربما أهونها، هو التعامل مع المتهمين.. إذا كان «مبارك» يسمح لنفسه بأن يظهر أمام شعبه وأمام العالم في هذا الوضع المهين على النقالة الطبية، رغم أن هناك اعتقاداً عاماً أن حالته الصحية تسمح له بالجلوس، فكيف يسمح له بأن يضع قدميه في مواجهة قاعة المحكمة ومنصتها؟.. ولماذا لا تضع الداخلية الكلابشات في أيدي المتهمين، وهي التي تضع الكلابشات في أيدي شباب المتظاهرين المصابين في المستشفيات، بل تقيدهم في الأسرة أيضاً؟.. ولماذا لا تقيدهم جميعاً في سلسلة واحدة كما يحدث في محاكمات أخرى بحيث يدخلون قاعة المحكمة في طابور بدلاً من أن يتقافزوا بالاستهتار الذي نراه، كما لو كانوا مدعوين إلى كوكتيل أو مقبلين على نزهة بحرية؟.. ولماذا يسمح لعلاء مبارك بحمل كرسي خاص، لماذا لا يجلس على المقاعد المخصصة للمتهمين في القفص؟.. وكيف يمكن أن توضع نهاية لاستعراض الأزياء المستفز الذي يقوم به المتهمون في كل جلسة، لماذا لا يرتدون ملابس السجن التي تصرف لعموم المساجين؟!
على أن هناك ألغازاً أخرى أكثر أهمية، لعل أهمها – بلا جدال- التصريح الصاعق الذي ورد في مرافعة النيابة العامة عندما قال المستشار مصطفي سليمان، المحامى العام الأول، بكل جلاء إن أجهزة الدولة قصرت في إمداد النيابة بالمعلومات والتحريات اللازمة، ولما قاطعته المحكمة لتسأل: هل طلبت النيابة من الجهات المسؤولة تقديم تحريات وقرائن لمساعدتها في أداء رسالتها؟ رد قائلاً: إن النيابة طلبت تحريات من «الداخلية» وكذلك من «الأمن القومي» فأجابا بأنه لا توجد لديهما معلومات فعاد رئيس المحكمة يسأل: هل كان ذلك تقاعساً أم عدم قدرة أم تقصيراً؟ وكان رد المستشار سليمان أنه يعتقد بشكل شخصي أن هذا كان عمداً.. بعد ذلك قرأنا في الصحف التصريحات المتوقعة التي تنفي عن جهات الأمن المسؤولة ذلك، سواء تصريح وزير الداخلية بأن الوزارة كانت منهارة عندئذ أو ما نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط لنفي مسؤولية جهاز المخابرات عن جمع معلومات كتلك التي طلبتها النيابة العامة.. وقد يعتقد المسؤولون أن هذه التصريحات كافية لمخاطبة الرأي العام، إلا أنها ليست كذلك، كما أن النيابة لم تضف إلى مرافعتها أي إيضاح، ولم تفصح عن السبب الذي جعلها تكتفي بالخطابات التي وردتها من أجهزة الأمن وتحجم عن استدعاء ممثليها ولو بالقوة الجبرية لتسألهم عن السبب في عدم تقديمهم المعلومات المطلوبة.. ويزيد من غموض الأمر أنه ليس بمقدور المحكمة الآن أن تطلب هؤلاء للشهادة بعد أن انتهي سماع الشهود وبدأت المرافعات.
اللغز الثالث الذي لايزال مستعصياً على فهم الرأي العام هو استثناء النيابة العامة لسوزان مبارك من الإحالة إلى المحاكمة في هذه القضية، رغم دورها في فساد عهد «مبارك» ودورها في مشروع التوريث، ورغم خضوع «مبارك» لضغوطها وإرادتها على نحو ما أشارت النيابة العامة ذاتها في مرافعتها.. سوزان مبارك كانت أيضاً رئيسة لعدد من المجالس القومية ورئيسة لمجلس أمناء مكتبة إسكندرية ولمجلس أمناء مستشفي سرطان الأطفال ورئيسة للهلال الأحمر، وكانت تتلقى دعماً لهذه الجمعيات ولغيرها من جهات أجنبية يقدر بنحو مليار جنيه سنوياً، دون رقابة تذكر على أوجه صرفه.. ومع ذلك فلم نسمع حتى الآن بتحقيق جاد في هذا الشأن، أو بمداهمات لأي من الجهات التي كانت ترأسها، كما حدث لغيرها من جمعيات مؤخراً.. وبالإضافة لذلك فقد تورطت سوزان مبارك في جريمة استغلال نفوذ فاضحة في شراء قصر العروبة من جهة تابعة للدولة ب-٤ ملايين جنيه، في حين يقدر ثمنه الفعلي بأضعاف ذلك، وهي جريمة مماثلة تماماً لجريمة «مبارك» ونجليه، التي يحاكمون عليها اليوم بشرائهم فيلات شرم الشيخ من حسين سالم بأسعار رمزية ولا ينفي ارتكابها جريمتها أنها لما ووجهت بها تنازلت عن القصر بأن باعته للجهة التي اشترته منها، فلماذا لا تقف هي الأخرى في قفص الاتهام اليوم مثلها مثل بقية عائلتها الفاسدة؟.. هذا هو السؤال الذي يسأله المصريون الآن، بل تسأله أيضاً مصادر أجنبية مثل مجلة «نيوزويك» التي تعجبت في عددها الأخير من أن سوزان هي الشخص الوحيد من عائلة مبارك الذي ليس محتجزاً الآن قيد المحاكمة.
لغز رابع – وإن لم يكن الأخير – هو مدى الحكمة في إغلاق المحاكمة دون آلات تصوير التليفزيون.. نعرف أن تصوير المحاكمات ظل محل خلاف بين القضاة أنفسهم منذ زمن، وأنهم انتهوا إلى ترك الأمر إلى قرار يتخذه القاضي نفسه في كل قضية على حدة، ونعرف أيضاً أن معظم القضاة كانوا يرجحون قبل 25 يناير منع التصوير المباشر، إلا أن المثير للتساؤل هو أن الثورة التي حطمت كثيراً من القيود على الحريات وفي مقدمتها حرية تداول المعلومات لم تؤثر في قرار محكمة مبارك بالذات، رغم أنها تتناول قضية لا تفوقها قضية أخرى في مدى اهتمام الرأي العام المحلى والعالمي بها وحرصه على متابعتها لحظة بلحظة.
مما يبعث الأسى أن الوقت قد فات لتدارك ما تثيره هذه الألغاز من شك وإحباط، وهو ما يلقى على كاهل المحكمة عبئاً أكبر لتنال ثقة الرأي العام، وما يجعلنا ننادى مرة أخرى بضرورة استصدار قانون لإحالة «مبارك» إلى محاكمة خاصة بتهمة الحنث باليمين الدستورية وارتكابه جرائم الفساد والاستبداد على مدى سنوات حكمه، وهو مطلب لن يستعصى تحقيقه مهما كانت السلطة الحاكمة ومهما طال الزمن.. «مبارك» يجب أن يكون عبرة للحكام الطغاة وعبرة لأذنابه الذين لم يرتدعوا بعد.
التجديد العربي:الأربعاء, 11 يناير 2012