أدونيــس…الإثــارة حَـدَّ التهـافت!
بسام الهلسة
يطلق أدونيس "علي أحمد سعيد" رغبته في تسليط الأضواء عليه إلى العنان الأقصى متوسلاً بإثارة استفزازية صارخة.
فهو يعرف بالتأكيد ان الآراء التي عرضها في لقائه بالمثقفين الأكراد في كردستان العراق أواخر الشهر الماضي، تفتقد إلى الحد الأدنى من الجدية ناهيك عما تتسم به من انعدام ذوق. فالتعميم والسطحية والخفة التي قال بها أدونيس ما قاله بحق الحضارة العربية والعرب، ربما يخجل صحفي غوغائي من التصريح بها.. لكن أدونيس، ومنذ أن دخل لعبة الترشيح لجائزة نوبل، لا يتردد بل يقدم بجرأة على إطلاق أي رأي مهما بدا فجاً، ما دام يثير الأصداء ويعيد التركيز عليه ليس كمثقف خلافي فحسب، بل كشخصية تتلذذ بالجهر بكراهية العرب واحتقار كل ما يمت لهم، فيما يبدو مأخوذاً منسحقاً أمام الغرب.
والمتابع لتصريحات وتصرفات أدونيس في السنوات الماضية، يعرف عم أتحدث ويعرف كم بذل الرجل في سبيل ما يظنه تعزيزاً لأوراق اعتماده من قبل منظمي الجائزة والقيّمين عليها.
***
فقبل مدة، وفي سياق رغبته في إعلان نفسه كمعارض للمقاومة المسلحة العربية ضد الاحتلال (في فلسطين ولبنان والعراق) كتب مقارنة بائسة بين شخصيتين: "غاندي" و"جيفارا" معلناً تفضيله لطريقة الأول السلمية، منكراً نهج "جيفارا" الثوري المسلح، فبدا متعاملاً مع تجارب الشعوب وظروفها ودروبها ووسائلها إلى الحرية والعدالة والاستقلال ونماذجها القيادية، وكأنها نوع من السلع المعروضة في المحال يختار منها الزبائن ما يشاؤون!
واللافت أن أدونيس لم يقدم مشروعاً للمقاومة السلمية في مواجهة الاحتلال والتعديات الأميركية- الإسرائيلية التي لا يبدو معنياً بها كقوى استعباد واستتباع واستلاب تستهدف تفكيك الوطن والأمة وإعادة صياغة "حضارتها" وهويتها على أسس عرقية وطائفية وجهوية وقبلية ضمن ما يعرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد. فداعية "الحداثة" الصاخب غير مشغول بمن يريدون ويعملون على إعادتنا إلى الأزمنة "الماضوية" أزمنة الانحطاط والجاهلية وليس إلى ما قبل الحداثة فقط! ما يعنيه ويشغله هو إدانة وإنكار ما يشرف العرب: مقاومة همجية العصر الأميركية- الإسرائيلية الاستعمارية العنصرية، وهي مساهمتهم المميزة التي يقدمونها للعالم المبتلى والمهدد، مرفقة بقائمة طويلة من الأعمال الإبداعية العربية، فيما "لو اجتمع الأميركي والأوروبي والعربي على سبيل المثال على طاولة واحدة، ترى ماذا يمكن أن يقدمه العربي؟ لا شيء" كما تساءل أدونيس بخفة دونية.
أما إسهاماتهم وتقدماتهم السابقة، فله أن يرجع إلى "غوستاف لوبون" و"آدم متز" و"آرنولد توينبي" و"هايكه زيغريد" صاحبة "شمس العرب تسطع على الغرب" ليتذكرها ان نسي..
وقد تسعفه مراجعة مؤلفات من ذكرناهم في تعميق وتوسيع فهمه المحدود للحضارة الذي يبدو محصوراً في "الشعر" ما دام يستشهد فقط بـ"أبي تمام" و"المتنبي" و"امريء القيس" عند الحديث عن الحضارة العربية التي تفضل فنفى (مشكوراً) أن يكون قد قال بأنها "جثة نتنة"!!
***
أما محاضرته المشار إليها آنفاً، فلا يملك المطلع على ما نُشر منها سوى الابتسام الممزوج بالاشفاق على مثقف وصوت شعري متميز، بلغ به استجداء الإثارة حد التهافت. فأقوال من نوع: "لقد أعلنت مرة وما أزال أن الحضارة العربية انقرضت والعرب ينقرضون" تحتاج لقدر عالٍ من الجهل والاستخفاف ليمكن سماعها.. فكيف بأخذها على محمل الجد!؟
وإمعاناً منه في الخفة، وليوضح لمستمعيه، الذين ربما تشكك بعضهم في مثل هذه الأحكام، قاس دعواه بانقراض الحضارة العربية على انقراض الحضارات: السومرية والبابلية والفرعونية! وهي طريقة عجيبة في الاستدلال لم يسبق لأحد قبله أن اهتدى إليها! وهي تشبه القول: بما أن "الحطيئة" قد مات فإن أدونيس ميت أيضاً!؟؟ علماً بأن مقارنة "الحطيئة" بالسومريين والبابليين والفرعونيين هي مقارنة ظالمة، فلا زال شعره واللغة التي كتب بها متداولين!
لا ينكر عاقل مهما كان متحاملاً أن الحضارة العربية والعرب أحياء يتحدث وينتج بلغتهم وينتمي لهويتهم مئات الملايين من البشر من أصول متعددة: عربية ومستعربة. ولا محل للمقارنة مع حضارات اندثرت وذابت منذ عهود سحيقة في غيرها..
والعرب وحضارتهم أحياء يخوضون منذ قرون معارك الوجود والنهوض والتجدد والتحرر وبناء الذات ضد قوى وبنى الجمود والتخلف والاستعمار والاستعباد…
ولو أنهما انقرضا أو أن "الطاقة الخلاقة عندهم انتهت" حسبما قال، لما دارت هذه المعارك ولا زالت تدور.. ولما احتاجت قوى الاستعمار والهيمنة العالمية وقوى التخلف والطغيان المحلية إلى بذل كل هذه الجهود للسيطرة عليهما وقولبتهما واخضاعهما.
ولا نعني بكلامنا المعارك السياسية والعسكرية في سبيل التحرر والاستقلال فقط، بل التي تشمل كل نواحي الوجود الإنساني: السيادية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية.
***
وبدل أن يعقد أدونيس مقارنة غير جائزة بين العرب والغرب (وبالمناسبة: هل ثمة غرب واحد؟) كان عليه أن يقارنهم بما كانوا عليه خلال العهود السابقة والمراحل التي مروا بها، وأن يفهم الظروف التي وجدوا فيها، والتحديات والقوى التي جابهتهم، والمهمات التي تعيَّن عليهم –ولا زال- القيام بها.. وعندها يمكن الحديث بجدية عمَّا أنجزه العرب وعما أخفقوا فيه.. عما يتحملون هم أنفسهم أو حضارتهم أو أوضاعهم التاريخية والجغرافية المسؤولية عنه، وعما يتحمله غيرهم من مسؤولية..
***
وإذا كانت طريقته في استدلال انقراض الحضارة العربية عجيبة، فإن حكمه بانقراض العرب أعجب! فلو كان حديثه يجري عن دورهم ومكانتهم واسهامهم، لكان الأمر مفهوماً جديراً بالنقاش والتعميق…
أما غير المفهوم فهو الحديث عن "انقراضهم" بإطلاق هكذا كما تبين عبارته! اللهم إلا إذا كان رقم 300 مليون عربي –كما تفيد الاحصاءات- أغلبهم في سن الشباب والفتوة، لا يعني شيئاً له! وكان بودنا أن نتعامل مع مثل هذا الكلام كدعابة لولا كونه فظاً سمجاً جارحاً لا يليق أن يصدر عن شخص جاد ناهيك عن مثقف.
ولم نسمع بأحد من علماء وباحثي الحضارات قام بإصدار حكم مطلق على أمة وحضارتها انطلاقاً من فترة محددة ومن تجربة أحد أجيالها أو حتى تجربة عدد من أجيالها! فكأن أدونيس ينطلق من أن مشكلة العرب وحضارتهم إنما تكمن في الجينات المورِّثة، وليست مشكلة تاريخية ظرفية قابلة للتغيير والتحول!؟
***
أما وصفه للثقافة العربية بأنها "ثقافة مؤسساتية وليس حرة ومستقلة" وأنها "تخدم السلطة"، فلا يحتاج إلى أكثر من إحالته إلى منظمات وهيئات حقوق الإنسان المتابعة للشؤون العربية، وإلى وسائط الثقافة والإعلام والنشر العديدة (المكتوبة والمرئية والمسموعة والالكترونية) في البلاد العربية وفي المهاجر.. فربما تعطيه الفرصة للتعرف على ما في الحياة والثقافة العربية من تيارات واتجاهات متباينة، نجازف بسلامة عقولنا ان نحن اختزلناها في توصيفه الأحادي المعمم.
وإذا كان أدونيس قادراً طليقاً يذهب حيث شاء، ويُدعى إلى دول عديدة وتتاح له المنابر، فعليه أن يتذكر غيره من المثقفين الأحرار الذين يعانون الملاحقة أو الاعتقال أو النفي أو المنع من السفر أو التضييق في العيش أو انسداد منابر النشر والاتصال… وبالتأكيد فإنه سيتعرف على عدد من معارفه وأصدقائه بين هؤلاء.
صحيح أن البلاد العربية تعج بالمؤسسات والأجهزة السلطوية.. لكن الصحيح أيضاً أن الثقافة –وبرغم وجود تيار سلطوي قمعي قوي فيها- هي أقل المجالات سلطوية وأكثرها حضوراً للتنوع والتجدد والاعتراض والمغايرة والاختراق… وبالتأكيد فإنها ليست ثقافة أحادية مغلقة وليست "سكة لقطار واحد" كما زعم! وهو ما يمكن معاينته في المشهد الثقافي العربي وتياراته واتجاهاته في تجلياتها الفكرية والأدبية والفنية والمعرفية خلال عشرات السنين الماضية وحتى الآن.
وظاهرة الثقافة المؤسساتية (المملوكة للدول أو الشركات أو منظمات التمويل المختلفة)، وتراجع مكانة ودور المثقف الحر المستقل الناقد، هي واقعة عالمية معروفة أدت إلى إنتاج ثقافة ومثقفين موظفين تابعين أو حتى مرتزقة… وهي ليست قطعاً خاصية عربية كما قرر أدونيس. وبودي إحالته إلى مقالتين مهمتين حول هذا الموضوع نشرتا خلال السنوات القليلة الماضية لكاتبين كبيرين: الأديب الألماني "غونتر غراس" الذي كتب نقداً لذريعة "حرية التعبير" التي تعلل بها المدافعون عن واضعي وناشري الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول "محمد" عليه السلام، مبيناً أن "حرية التعبير" هذه إنما ترسم حدودها إرادة الشركات والمؤسسات الكبرى. فيما كتب الناقد البريطاني "تيري إيجلتون" عن انحسار وأفول "المثقف المستقل" عن المؤسسات والشركات، ما يشبه النعي!
أما كتابات المفكر الأميركي "نعوم تشومسكي" عن تحالف الدولة والشركات والإعلام في الولايات المتحدة، وهيمنتها الطاغية على المجال العام، فهي أشهر من يشار إليها.
وبالطبع لا أكتب هذا الكلام ليبرئ العرب -والعالم الثالث عموماً- أنفسهم.. ولكي يقول البعض مهللاً "مثلنا مثل غيرنا!" فما من أحد مثل أحد مهما أغرت التشابهات. وإنما أكتبه لتبيان الفجاجة والتسطيح والأحكام المنطلقة من الكراهية والاحتقار والمدفوعة برغبة غير سوية في نيل رضى الآخرين وجوائزهم!
***
كنا دائماً مع النقد الجاد والعميق لأوضاعنا ولأنفسنا، مهما كان قاسياً ومؤلماً، ما دام ينير دروب النهوض والتجدد والخلاص لأمتنا وللإنسانية، ويمنح الأمل للأجيال الظامئة للحرية والعدالة والتقدم والسيطرة على المصيرالذي يدعو إلى ندائه أبناء وبنات وعناصر الأمة والبشرية الحية المخلصة للمشاركة في صياغته وبنائه، أياً كانت مرجعياتهم ودواعيهم (سياسية، اقتصادية، فكرية، فلسفية، اجتماعية، دينية، أخلاقية، علمية…الخ) ما دامت تصدر عن إرادة حرة مستقلة وليست تابعة أو مرتزقة، وما دامت تنشد الخير للإنسانية المعذبة… هذا إذا كنا نريد حقاً "أن نؤسس لمجتمع جديد" ينبذ القمع والتسلط والاستغلال والاقصاء، ويحتكم للتفاعل والحوار والمشاركة التي تقوم ببساطة على أن الشؤون العامة هي شؤون تخص الجميع.
***
بقدر ما اتسمت آراء أدونيس السابقة بالخفة والتعميم والطيش، فإن النصيحة التي قدمها للمثقفين الأكراد: "ارجو أن لا تصيب عدوى العرب الوسط الثقافي الكردي" قد اتسمت، إضافة لما سبق، بانعدام الشعور بالمسؤولية.
فالعرب إبتداءً ليسوا عدوى ليدعو الأشقاء الأكراد للاحتراز والوقاية منها.. هذا كلام معيب كنا سنستهجنه لو صدر عن مثقف استعماري عنصري، فكيف وقد صدر من مثقف عربي أنتج أدبه وفكره وروّجه باللغة العربية، ووجد بين أبنائها وبناتها من يتقبله ويدعو له؟
وهو كلام خطر في ظروف العراق خاصة التي تحتاج أكثر ما تحتاج إلى التأكيد على التآخي والانفتاح والتواصل والحوار، لا إلى تعزيز الأحقاد والانغلاق والمجابهة بين شعبين شقيقين لديهما الكثير الكثير مما يتشاركان فيه.
فإذا كان أدونيس قد انخلع من الجغرافيا والتاريخ والحضارة والأمة التي أنجبته فهذا شأنه الشخصي…
أما العرب والكرد في العراق ومعهم الآشور والكلدان والتركمان، فلهم شأن آخر ينشغلون به: الذود عن الجغرافيا المستباحة، وتصويب مسار التاريخ، والدفاع عن الحضارة الإنسانية المنتهكة من همج العصر ولصوصه، والتي كان أسلافهم السومريون والأكاديون أول بناتها.
***
قبل سنوات وضمن سلسلة "كتاب في جريدة" قدم أدونيس مختارات من شعر المتنبي، ومن بين مئات القصائد وآلاف الأبيات لأبي الطيب اختار أدونيس بيتين صدَّر بهما المختارات أراد لهما أن يكونا مفتاح شخصية المتنبي والبوابة التي يُدخَل منها إلى عالمه:
" وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه، والثوب جلده"
"ولكن قلباً بين جنبيَّ، ما له
مدى ينتهي بي، في مُراد أحُدُّه"
لكن الإيحاء الآخر الذي أراده أدونيس هو أن هذين البيتين هما مفتاح شخصيته هو بالذات. ولا نجادل في حق كل إنسان أن يكون طموحاً لا يرضى بما يرضى به الناس، وفي حقه بأن يكون مراده بلا مدى يحدُّه. لكن ما نجادل فيه ونسأل هو مدى جدارة واستحقاق الشخص لما يريد.. ووسائله في بلوغ ما يريد…
فإذا كان ابداع المتنبي الخالد قد ظل خصباً متدفقاً حتى عشية مقتله الذي حُذِّر منه فلم يكترث:
"وأياً شئت يا طرقي فكونيأذاةً، أو نجاةً، أو هلاكا"
ولم يتوسل بغيره لإدراك غاياته، فإن إبداع أدونيس قد نضب منذ وقت طويل للأسف.. فلم يعد ثمة لديه ما يتوسل به سوى ما يفعله:
إستجداء الإثارة عبر تقنية الاستفزاز!