منذ أكثر من ربع قرن حذر الصحفي الأمريكي ثيودور هوايت من "ان طوفان المال الذي غمر الساحة السياسية (الأمريكية) أصبح يلوث الديموقراطية" في ذلك البلد. هذا القول يصلح أن يكون وصفاً دقيقاً لساحة السياسة في أرض العرب في أيامنا التي نعيش، لكن قوة المال عندنا تخطت مرحلة تلويث السياسة لتكون ثنائيا متناغما ومتفاهما ومتعاضدا مع قوة السياسة. المال يشتري سلطة القوة السياسية والقوة السياسية بدورها تولد المزيد من قوة المال. وتصل العلاقة بين القوتين للمال والسياسة إلى قمتها وأوضح تجلياتها في دول النفط العربية.
في هذه الدول لا يقتصر الأمر على دخول المال في ساحة السياسة ليحقق بعض المكاسب الانتهازية النفعية هنا وهناك مثلما هو الحال في الكثير من المجتمعات الأخرى بما فيها بعض الدول الديموقراطية. إن هذا المال، وهو بالأساس ثروة النفط، التي من المفروض أن تكون ثروة المجتمع، يقفز كقوة حتى من فوق السياسة ليصبح سلطة حكم شامل وليهيمن على كل تفاصيل مناحي الحياة المجتمعية المادية والمعنوية.
بصورة مبدئية لا مشكلة مع المال ولا مع السياسة حتى ينقلبا إلى قوة إذ عندذاك تكون لدى هذه القوة القدرة، من خلال النفوذ أو السيطرة، على تحقيق كل ما ترغب فيه بغض النظر عن وجود أو عدم وجود مقاومة تضادها. هذه القوة تحمل في طياتها إمكانية أخطار كثيرة ما لم تضبط وتحدد وتخضع للمساءلة، فالقول المأثور عن أن السلطة تفسد وأن السلطة المطلقة تفسد على الإطلاق ينطبق على كل أنواع القوة، خصوصاً إذا كانت هي الأخرى مطلقة.
كل قوة تسيطر على الحقل الذي يخصها، فالقوة المالية، وبالتالي الاقتصادية، تسيطر على وسائل الإنتاج، والقوة السياسية تسيطر على مؤسسات تشريع القوانين وعلى مؤسسات تنفيذها، والقوة الإعلامية تسيطر على الرأي العام، إلخ لكن المجتمعات ستعيش في جحيم الاستبداد عندما على الأخص تتجمع قوى: المال والسياسة والإعلام في يد واحدة أو أيادٍ قليلة. وللأسف فان هذا يحدث في الدول الريعية النفطية العربية، حيث تتآلف القوى الثلاث بشكل واضح، وبنسب مــتفاوتة، وتكوّن نظام حكم "سلطوي" يستبطن المشاكل والأخطار.
هل هناك حل لهذه الإشكالية؟ نعم، ألا يسمح بوجود سلطة في المجتمع لأيٍّ من هذه القوى ما لم تحصل على رضا الناس بالنسبة إلى نوع وحدود ممارسة تلك السلطة، أي تصبح سلطة شرعية بقوة الدستور والقوانين والأعراف والقيم الإنسانية، أي أن كل أنواع القوة، وبالتالي سلطاتها، لا تصبح شرعية إلا من خلال عقد يحدد كل التفاصيل المتعلقة بها. إن هذا العقد المطلوب هو الديموقراطية. إنه العقد الذي سيجعل ممارسة سلطة القوة ممارسة عادلة ومن أجل صالح الكل.
إن إشكالية سلطة القوة كثيراً ما تكمن فيها. فالرئيس الأمريكي الثاني جون أدمز حذر منذ زهاء قرنين من أن فك القوة مفتوح دوماً لالتهام كل شيء. وأحد السياسيين الإيرلنديين نبه منذ نحو ثلاثة قرون إلى "ان أولئك الذين سكروا ولو مرة واحدة بفعل آثار القوة، حتى لو سنة واحدة، لن يتخلوا عنها قط طائعين". وهو نفسه الذي قال: إنه "كلما كبرت سلطة ازدادت إمكانيات سوء استعمالها". والفيلسوف الانجليزي الشهير توماس هوبز كان يؤكد أن هناك ميلا دائما عند كل البشر ورغبة جامحة لا تهدأ لامتلاك القوة تلو القوة التي لا توقفها إلا لـحظة الموت.
كل تلك التحذيرات، وغيرها الكثير الكثير، هي التي توجب أن تأخذ دول النفط العربية قضية تكدس ثروة النفط وثروة الأرض في أياد قليلة، وقضية عدم تنظيم سلطة السياسة وتقاسمها وتوازن الجهات الممارسة لها، وقضية التأخر في فك الارتباط بين قوى السياسة والمال والإعلام، أن تأخذ كل تلك القضايا بجد ومسؤولية وتفاهم تاريخي بين أنظمة الحكم ومجتمعاتها.
إن هذا التلازم بين القوى الثلاث، الذي أوجدته حقبة النفط المؤقتة، قد أوجد مجتمعات غابت عنها الشفافية والأمانة والمحاسبة، وأوجدت في كثير من الأحوال حكماً غير رشيد. هذا التلازم يجب أن يعالج بحكمة وموضوعية والتزام وطني وذلك قبل نهاية حقبة النفط، فإذا كانت ثروة النفط الهائلة قادرة على تغطية نواقصه فان حقبة ما بعد النفط ستفجره في وجوهنا جميعا، ولــن ينجو أحد.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.