ما لا يعرفه الكثيرون أن عالم الاقتصاد الإنكليزي آدم سميث، لم تقتصر إسهاماته على وضع الأسس النظرية لاقتصاد السوق الرأسمالي في كتابه الشهير "ثروة الأمم"، وإنما امتدت لتشمل التنبؤ بحدوث تشوهات في شخصية وذهنية عمال المصانع الرأسمالية وذلك كنتيجة حتمية لتجزئة العمل في تلك المصانع وجعله عملاً روتينياً ميكانيكياً مملاً خالياً من أي إبداع أو أية مساهمة تطويرية من قبل العامل. وقد خرج من تحليلاته بنتيجة فرعية هامة مؤداها أن شخصية الأفراد وبالتالي شخصية الشعوب هي في النهاية نتيجة عوامل سير وتقلبات وأحداث تاريخها.
دعنا من تحليلاته الاقتصادية ولنأخذ تحليلاته الإنسانية الاجتماعية تلك: سلطة التاريخ على الشخصية، لأنها تهمنا نحن العرب، ذلك أن حاضر العرب، وقد يمتد إلى مستقبلهم، هو في تكوينه الأكبر والأعمق من نتاج تاريخهم المليء بكل أصناف التحولات الكبرى. لنأخذ كمثل تحولاً كبيراً مثل الذي حدث بعد انتهاء العهد الراشدي وذلك باغتيال الخليفة الإمام علي بن أبي طالب وانتقال الحكم إلى الأمويين. سياسياً كان التحول هزة بركانية هائلة. فالعهد الراشدي تابع مسيرة إدارة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة على أسس الشورى في الكثير من أمور الجماعة وعلى ممارسة معقولة للحرية والتسامح والتوافق مع المعارضين. وتضمن عهد الخلفاء الراشدين السياسي كثيراً من المساواة في الحقوق والواجبات وحساسية تجاه العدالة والكرامة الإنسانية، وارتبطت العقيدة بقوة بجانبها الأخلاقي، ومورست الشورى بين كبار الصحابة في تسمية الحاكم ثم مبايعته مبايعة علنية من قبل كل الناس في المسجد. لقد كانت هناك بدايات حقيقية لبناء إنسان الديمقراطيه من خلال قدسية مكونات الكرامة الشخصية والحرية والمساواة والعدالة والرجوع، ولو بصورة محدودة، للأمة حتى ولو تمثلت في أهل المدينة لأسباب عملية حكمت ذلك الزمان.
لكن الإنتقال للحكم الأموي أجهض تلك المحاولة الوليدة عندما قام على مبادئ القوة والقهر والملك الوراثي العضوض، فكان أن انفصلت جماعة الحكم عن الأمة، ودخلت المجتمعات العربية الإسلامية عصر الظلام السياسي الحالك الذي لم تخرج منه إلى يومنا هذا.
هنا يجب أن يطرح السؤال التالي: ترى لو أن ذلك الحدث التاريخي لم يغير المسار السياسي العربي الإسلامي من مسار الشورى إلى مسار الملك العضوض، هل أن الكثير من صفات شخصية المجتمع والإنسان العربي الحالية كانت ستكون مختلفة جذرياً، وستؤثر بالتالي على الكثير مما يجري في الأرض العربية؟ وبمعنى آخر لو أن المسار الشوري الذي كان مرشحاً ليتحول تدريجياً إلى مسار ديمقراطي استمر في التاريخ، فهل أن الكثير من قيم المجتمعات العربية كانت ستكون مختلفة؟
مثلاً، هل أن قيمة القضاء والقدر التي رسخها الحكم الأموي في حقل السياسة وساهمت في شل الإرادة الحرة، هل الإتباع والطاعة والامتثال، سواء للسلطة المستبدة أو لمشيئة الجماعة العامة والفرعية، التي نظمت حياتنا الاجتماعية والسياسية عبر القرون، هل أن قيم إحسان الدولة ومكرماتها ورعايتها الأبوية الريعية وعدم تطورها إلى قيمة العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة وكل أنواع السلطات، هل أن قيمة قبول تقسيم المجتمع على أسس الوجاهة والمكانة الاجتماعية في العائلة أو القبيلة أو المذهب الديني وذلك على حساب قيم المساواة أو المواطنة وكسب التميز من خلال الجهد والتضحيات وخدمة المجتمع… هل أن كل تلك القيم والعادات كانت ستصبح جزءاً راسخاً في بنيان مجتمعاتنا بالصورة المفجعة التي نحن عليها؟ مثلاً آخر، هل كانت شخصية الفرد العربية ستصبح منغلقة على نفسها خوفاً وتحسباً بحيث يضطر الكاتب يوسف ادريس أن يقول عن العربي بأنه "يحيا كالسفينة جزء منه فوق الماء ظاهر للعيان، وجزء تحت الماء لايراه أحد"، وهي حياة مناقضة لحياة الأحرار ومماثلة لحياة العبيد المرعوبين؟ هل كان الفرد العربي والمجتمع العربي بحاجة لترديد أقوال من مثل "مابيحمل همك إلاً اللي من دمك" أو "العين لا تعلو على الحاجب" أو "الناس على دين ملوكهم" أو "البنت أكبر من الهمٍّ على القلب" أو اللي ما بتقدر عليه بوس إيدو وادعي عليها بالكسر" أو "إبعد عن الشرٍّ وغني له"، وغيرها الكثير مما يجدُّّّّّّّّّّّّر الخنوغ والخوف من الحرية والإنغماس في الولاءات الفرعية؟
إذا كان آدم سميث تنبئ بحدوث تشوٌّهات في شخصية إنسان ومجتمعات حضارة الغرب من جرًّاء التغيرات في الاقتصاد وأنظمة العمل في عصره، وأثبتت الأيام صدق نبوءته، فان ما قاله انطبق على تشويه شخصية أفراد ومجتمعات الحضارة العربية الإسلامية من جرًّاء التحولات الكبرى في السياسة عبر تاريخنا. ويا تاريخ العرب آه مًّما فعلته أحداثك وهًّزاتك وتشوٌّهاتك بهذه الأمة.